الحرب التي مركزها قطاع غزة تدور رحاها بين معسكر إسرائيلي أميركي يضم دولا غربية أخرى، ومعسكر الممانعة والمقاومة الذي تشارك فيه 4 ساحات مقاومة وتقوده إيران. واقع الحال أن الحرب تتركز على قطاع غزة حيث تستفرد غطرسة القوة بفصائل المقاومة الفلسطينية وتمضي في حرب الإبادة والتدمير بشكل متصاعد في الوقت الذي لم تستطع فيه حرب المساندة على الجبهة اللبنانية واليمنية وغيرها من تخفيف الأهوال والمخاطر والخسائر في قطاع غزة، وقد حولت شعار وحدة الساحات إلى شعار رمزي، بعد أن تأكد حرص ايران على عدم دخول الحرب إلا من باب رفع العتب.
لقد دفع الشعب الفلسطيني ثمنا باهظا للاحتكار الأميركي لفرضية إنهاء الاحتلال المزمن للأراضي الفلسطينية وتمكين الشعب الفلسطيني من تقرير مصيره، وذلك عندما كانت النتيجة تعميق الاحتلال والاستيطان ونهب الأرض وتدمير مقومات تقرير المصير، ولم يؤدِ التعويل على أقطاب أخرى كالاتحاد الأوروبي والاتحاد الروسي والصين إلى نتيجة أخرى، إلى أن وجدت حركة حماس وفصائل المقاومة في ايران و»حزب الله» وتنظيمات أخرى بديلا لدعم النضال الفلسطيني من أجل هزيمة الاحتلال، ونجحت في جذب أكثرية الرأي العام الفلسطيني، وفي استقطاب فئات شابة في فصائل المقاومة، وفي تكريس الإحباط الشعبي من المفاوضات والحل السياسي.
موضوعيا، كانت الأسباب اكثر من مقنعة لتبديد كل تعويل أو وهم حول «السلام الأميركي». ومنطقيا تولدت حاجة البحث عن بديل في إطار النظام الدولي، وداخل النظام الإقليمي، وبخاصة بعد الاتفاقات الإبراهيمية التي انسحب فيها النظام العربي من الالتزام السياسي بالقضية الفلسطينية عندما اعتمد استراتيجية نتنياهو ومعسكره القومي الديني «السلام مقابل السلام» مع الدول العربية بدلا من استراتيجية «السلام مقابل الأرض» المعبر عنها في مبادرة السلام العربية.
جاءت حرب الإبادة الإسرائيلية في أكتوبر 2023 لتختبر استراتيجية المقاومة ومحورها بقيادة ايران، فكانت النتيجة حتى الآن مخيبة للآمال، ما يستدعي إعادة قراءة هذا الخيار، بهدف التحرر من الأخطاء الكبيرة والصغيرة والأوهام وتصويب المسار. وليس للمفاضلة مع استراتيجية البحث عن حل سياسي بلا ركائز حقيقية.
أولا: يجوز القول، إن الاستراتيجية الإيرانية ملتبسة منذ البداية ولا تصمد أمام أي إعمال مستقل ومتواضع للعقل، فهي تطرح القضاء على إسرائيل وتعد العدة لذلك، وهي تعلم اكثر من غيرها أن علاقات القوة التقليدية والنووية المستمدة من تبني ودعم مفتوح أميركي وغربي لا تسمح بذلك. ايران تعبئ رأيا عاما فلسطينيا وإسلاميا بإمكانية محو إسرائيل، وهدفها الفعلي منع الحل الدولي للصراع – دولة فلسطينية في الأراضي المحتلة العام 67 -. وتتقاطع ايران هنا مع سياسة تدمير الحل ومقوماته التي تضطلع به دولة الاحتلال على الأرض. وعندما يكون محو إسرائيل غير ممكن، وحل الصراع غير ممكن، تتحول الاستراتيجية الإيرانية إلى صراع مفتوح إلى ما لا نهاية، أو إلى – صبر استراتيجي – بانتظار لحظة الحسم الموعودة والمفتوحة على توقيت لا يعرفه إلا ايران. والهدف غير المعلن الذي لا شك في أن إيران تعرفه حق المعرفة، هو استخدام العامل الفلسطيني الحيوي والمؤثر لإبرام صفقة تعزز مكانتها الإقليمية بالتقاسم مع أقوياء الإقليم لا سيما إسرائيل. إذاً، فلسطين ورقة استخدامية في الاستراتيجية الإيرانية، إلى جانب أوراق أخرى لها وظيفة هي الدفاع عن الأمن القومي الإيراني.
ثانيا: تعتمد الاستراتيجية الإيرانية على تنظيمات مسلحة تدين لها بالولاء الطائفي المذهبي، واحيانا بالولاء السياسي – الديني كما في الحالة الفلسطينية، تنظيمات تمارس ازدواجية السلطة يكون الطرف الأضعف فيها هو الدولة التي تتخلى عن اهم صلاحياتها وهو احتكار العنف. إن اضمحلال الدولة وهامشيتها لصالح بنية طائفية أو دينية تعصبية يعني استبدال شرعية الدولة بشرعية التنظيم المسلح المتحرر عمليا من التزامات الدولة، وكان من شأن ذلك نزع أو إضعاف شرعية البلد الدولية والإقليمية وانعزاله عن شبكة العلاقات والمؤسسات الدولية التي لا غنى عنها في مجال التنمية والإقراض والاستثمار والتعليم والصحة، والعودة بالبلدان المسيطر عليها إلى مرحلة ما قبل الدولة. لقد انتقل قرار الدولة في الحرب إلى «حزب الله» والحوثيين والحشد الشعبي و»حماس» وميليشيات سورية المدعومة من ايران. وكل هذه التنظيمات أضعفت دولها وانتزعت منها السيطرة على المواطنين وأصبحت في موقع سلطة القرار، وقبل ذلك كانت في موقع الأقلية المعطلة للقرار، أي أنها تملك حق نقض أي قرار. والأخطر من ذلك أن تنظيمات المقاومة تقاوم كل تغيير لا ينسجم مع سيطرتها ومع المصلحة والثقافة الإيرانية، فيكفي أن يكون النظام مؤيدا لمحور المقاومة بقيادة إيران ليكون مقبولا وشرعيا، ولا يهم إذا كان فاسدا ومستبدا وطائفيا وعاجزا عن حل المسألة الوطنية. هكذا قاوم محور المقاومة انتفاضات التغيير الشعبية السلمية في سورية – قبل العسكرة والتدخل الرجعي – والعراق ولبنان واليمن، كما قمعت ايران كل المطالب الشعبية والنسوية قمعا دمويا. وهذا يعني عداء هذا المحور للديمقراطية والحريات العامة والخاصة وللتعدد الثقافي وللتبادل السلمي للسلطة. وهذا يطرح سؤالا وهو ما معنى اختيار محور تكون السلطة فيه أبدية ومفروضة ومستبدة وينحاز لفكر رجعي بمقياس التحرر الوطني الذي لا يستقيم بدون تحرر اجتماعي وبدون خلع رداء الطائفية والتعصب الديني.
ثالثا: لا قيمة لحياة الناس في هذه الاستراتيجية، يكفي احتسابهم شهداء في سبيل الله، ولا يهم بذل أي جهد للدفاع عن حياتهم، وتجنيبهم العذاب والتشريد والجوع والانكسار الجسدي والمعنوي. الدخول في حرب دون أي استعداد يخص الناس، ودون أي محاولة لتوفير الحد الأدنى من مقومات درء الخسائر، دون خطاب تضامن يشد من أزرهم ويفسر لهم أهداف الحرب، ويقول لهم لماذا يموتون ويعذبون. صحيح أن حرب الإبادة ومجازرها وحالة التشرد التي أصابت الأكثرية الساحقة من المواطنين، تثير الرأي العام وتحول دولة العدوان إلى دولة منبوذة، لكن هذا لا يعفي المقاومة من اهم مسؤولياتها في احترام شعبها. عندما تُسقط هذه الاستراتيجية الحق في الحياة والحماية للأطفال وسائر الأبرياء، فإنها تسقط أهم ركن من أركان المقاومة.
كانت الاستراتيجية الإيرانية بديلا خاسرا، أضاف لخسائر استراتيجية البحث عن حل سياسي بلا ركائز حقيقية، خسائر اكبر وأخطر. لم يستطع هذا المحور حماية قطاع غزة على اقل تقدير، بل تركه يواجه مصيره منفردا، وينتقل من مستوى شديد إلى مستوى أشد في حرب الإبادة، البديل الذي حول وحدة الساحات إلى استفراد آلة الحرب الإجرامية بساحة غزة، ودعا إلى الانتحار في ساحة الضفة، معلنا انه لا يريد توسيع الحرب، ولكنه لا يعمل من اجل وقف الحرب من خلال تقديم مبادرات تعزز وقف الحرب، هذا البديل اثبت فشله.
بعد انكشاف اختلالات الاستراتيجية الإيرانية ومقامرتها بالوضع الفلسطيني فإن الخروج بأسرع وقت من هذه الاستراتيجية يعتبر قرارا حكيما، وبعد ذلك يتم البحث عن خيارات جديدة.
عن صحيفة الايام