بعد أن حقق حزب “هناك مستقبل” بزعامة يائير لبيد نتائج مفاجئة خلال الانتخابات الإسرائيلية، كثرت المقالات التحليلية عن فجر جديد في السياسات الداخلية والخارجية الإسرائيلية. سيضطر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي خسر حزبه “الليكود” وحزب وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان “إسرائيل بيتنا” ما مجموعه أحد عشر مقعداً في الكنيست، إلى تشكيل حكومة أوسع تشمل شخصيات وسطية مثل لبيد. من المتعارف عليه أن هذا الائتلاف الجديد سيُخرج إسرائيل من عزلتها الدولية، حتى إن المراقبين بدؤوا يتساءلون عما تعنيه ظاهرة لبيد هذه لـ”عملية السلام”. كذلك ركز محللون سياسيون على العلاقات التركية-الإسرائيلية، معتبرين أن الوقت قد حان لتحسينها، خصوصا مع تشكل حكومة إسرائيلية جديدة أكثر اعتدالاً، ولكن رغم بروز لبيد، لم تطرأ أي تبدلات (ولن تطرأ على الأرجح) يمكن لها أن تقنع القادة الإسرائيليين والأتراك بأن رأب الصدع بين البلدين يخدم مصالحهم السياسية.
دفع الأتراك بحد ذاتهم المراقبين الأجانب إلى الاعتقاد أن بعض التغييرات قد تطرأ على العلاقات التركية-الإسرائيلية، فقد أشار المسؤولون الأتراك إلى أن إسرائيل نفسها لا تُعتبر مشكلة، بل “تلك الحكومة الإسرائيلية”، أي ائتلاف أحزاب اليمين والوسط المنتهية مدته الذي ترأسه نتنياهو، فمن الصعب التعاطي مع نتنياهو ووزير الخارجية ليبرمان الذي يتمتع، خلافًا لمواصفات منصبه، بموهبة إفساد العلاقات مع الدول الأخرى، ولكن إذا استثنينا حادثة سفينة “مافي مرمرة”، تعود المشاكل الكبرى في العلاقات التركية-الإسرائيلية (حصار قطاع غزة وعملية “الرصاص المصبوب”) إلى ما قبل عهد نتنياهو. إذن، تنبع فكرة أن ائتلافاً إسرائيليّاً أوسع وأكثر اعتدالاً، حسبما يُقال، سيؤدي إلى مصالحة بين تل أبيب وأنقرة من سوء فهم لتفاعلات سياسات إسرائيل اليسارية-اليمينية، الكره العميق لإسرائيل في تركيا، وأهمية الشرق الأوسط بالنسبة إلى مهندسي السياسة الخارجية التركية.
لطالما اعتبر الأتراك السياسة الإسرائيلية تجاه غزة، خصوصاً حصار هذا القطاع، المثال الأبرز لمشاكلهم مع حكومة نتنياهو السابقة والعائق الذي يحول دون توطيد العلاقات بين البلدين. ينبع هذا الموقف من مبادئ تركيا الراسخة، ولكن يبدو أن أنقرة أخطأت في تحديد التسلسل الزمني. يعود الحصار البري، الذي فرضته إسرائيل على غزة، إلى يونيو عام 2007، في حين أن الحصار البحري طُبّق في شهر يناير عام 2009، ما يعني أنهما اعتُمدا خلال عهد رئيس الوزراء إيهود أولمرت، الذي اكتسب، بعد تركه الليكود لينضم إلى حزب أرييل شارون المنشق “كاديما”، شهرة كسياسي وسطي. ولا شك أن نتنياهو ما كان ليعاكس سياسات أولمرت، ومن المستبعد أن يقوم بذلك راهناً، رغم انضمام يائير لبيد إلى حكومته، علماً أن ليبد ليس يسارياً إلى هذا الحد في ما يتعلق بالسياسة الخارجية.
حتى لو استعاد حزب العمال مكانته وأعطاه الإسرائيليون معظم مقاعد الكنيست وكُلّف زعيمه شيلي ياكيموفيتش بتأليف الحكومة، ما كانت إسرائيل لترفع حصارها البري والبحري عن غزة. فلا يمكن أن تظهر حكومة يسارية معتدلة بمظهر المتساهل في المسائل الأمنية وقضية غزة. صيغت العبارة الشهيرة “وحده حزب العمال يشن الحروب، ووحده حزب الليكود يصنع السلام” قبل زمن طويل، لكنها ما زالت صحيحة حتى اليوم، فخلال العقدين الماضيين، أُسقط رؤساء الوزراء الإسرائيليون من اليمين لأسباب ترتبط بأمن البلد، وإذا وضعنا القضايا السياسية جانباً، نُلاحظ أن كل الأحزاب السياسية الكبرى في إسرائيل تُجمع على أن غزة تشكل خطراً على الأمن الإسرائيلي، وإن كان الطلب التركي بأن ترفع إسرائيل حصارها عن غزة جادّاً، فمن المرجح أن تبقى العلاقات بين أنقرة وتل أبيب متوترة.
كراهية تركية لإسرائيل
لا تقتصر العقبات، التي تعترض العلاقات التركية- الإسرائيلية، على السياسات التي تتبناها إسرائيل في حصارها لغزة أو الخطر الحقيقي التي تشكل هذه الأخيرة، ولا شك أن مَن يرون الفرصة متاحة لتحسين العلاقات بين البلدين مع تشكيل الحكومة الإسرائيلية الجديدة، أو يمتلئون حماسة مع كل تسريب عن اتصال على مستوى عالٍ بين المسؤولين الأتراك والإسرائيليين (أمر ينكره الأتراك دوماً) لا يولون السياسات التركية الاهتمام الكافي. فلا تتمتع إسرائيل بشعبية كبيرة في تركيا، ولم تنعم بها يوماً رغم العلاقات الاستراتيجية التي توطدت بين تل أبيب وأنقرة عام 1996، فقد خدمت هذه الروابط الأمن القومي الخاص بهيئة الأركان التركية والأهم من ذلك مصالحها السياسية المحلية في وقت كانت فيه قوة المسؤولين العسكريين الأتراك في أوجها، كان ذلك في عهد ما قبل بروز حزب العدالة والتنمية، مرحلة ما كان فيه الرأي العام التركي يؤدي أي دور في رسم سياسة تركيا الخارجية.
يعي رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، وهو سياسي بارع جدّاً يدرك ما يؤثر في المواطن التركي العادي، المكاسب السياسية التي يجنيها من توتر العلاقات مع إسرائيل.
يُظهر واقع أن رئيس الوزراء التركي تمكن من التأثير في القضية الفلسطينية، محققًا مكاسب سياسية كبيرة من دون أن يترتب على ذلك أي سلبيات، أن تأييد الشعب التركي للفلسطينيين، الذي يتجلى بوضوح اليوم، لم يولد عام 2002 حين استلم حزب العدالة والتنمية السلطة. رغم ذلك، ظلّ العداء الصريح لإسرائيل محصوراً بالإسلاميين الأتراك المتشددين، مع أن الشعب عموماً كان ينظر بعين الريبة إلى علاقات أنقرة بتل أبيب وينتقد سياسات قوات الدفاع الإسرائيلية في الضفة الغربية وقطاع غزة.
تبدل هذا الوضع خلال الأيام الأولى من عملية “حرية العراق”، حين ظهرت روايات كثيرة عن دعم إسرائيل الاستقلال الكردي في شمال العراق في مجلة The New Yorker وعدد من الصحف اليومية التركية الأقل شأناً. بعد ذلك، أدت طريقة استغلال أردوغان عملية “الرصاص المصبوب” الإسرائيلية في أواخر عام 2008 ومطلع 2009 ثم حادثة “مافي مرمرة” في مايو عام 2010 إلى تحويل التضامن مع الفلسطينيين إلى كره لإسرائيل، ما شكل منجم ذهب بالنسبة إلى أردوغان.
إرث الاستعمار
بينما يسعى أردوغان إلى الوصول إلى قصر كانكايا الرئاسي، يكتفي راهنًا بلقب “ملك الشارع العربي”، فيحتلّ أردوغان المرتبة الأولى بين قادة العالم الأكثر شعبية في استفتاءات الرأي في العالم العربي. وتعود مكانته هذه في المقام الأول إلى موقفه في قضية غزة. ولكن يجب ألا ننسى مطالبته الباكرة بتخلي حسني مبارك عن الرئاسة خلال الانتفاضة المصرية، فضلاً عن إيواء تركيا آلاف اللاجئين السوريين الهاربين من بطش الأسد. وتشكل هذه السياسات علامات فارقة في نشاط تركيا الأوسع وتعاطيها مع قضايا الشرق الأوسط، علامات تميّز أردوغان عن الحكومات التركية السابقة. ويعتقد مهندسو السياسة الخارجية التركية (أردوغان، والرئيس عبدالله غول، الذي خدم أيضاً كرئيس للوزراء ووزير للخارجية، ووزير الخارجية أحمد داود أوغلو) أن تركيا القائد الطبيعي لمنطقة هيمن عليها العثمانيون في الماضي وكانوا حكامها المطلقين.
تُعتبر هذه التركيبة، التي تجمع بين قوة تركيا الاقتصادية ونفوذها الدبلوماسي وميلها الثقافي إلى العرب والمسلمين، ركيزة أساسية في ازدهار المنطقة وتطورها السياسي. ويُدعو البعض هذه الظاهرة “العثمانية الجديدة”، مع أن هذه العبارة تُشكل اليوم موضوع جدل. ولكن بغض النظر عن التسمية، لا تستطيع أنقرة أن تكون حقّاً قائداً إقليميّاً، حلال مشاكل، “ملهماً”، ومحركاً اقتصاديّاً، فضلاً عن الكثير من الصفات والأسماء التي اختارتها خلال العقد الماضي، وتعزز في الوقت عينه علاقاتها بإسرائيل.
كان العالم العربي يتطلع بريبة إلى الأتراك، نظراً إلى إرث الاستعمار العثماني، علمانية مصطفى أتاتورك، وروابط أنقرة المؤسساتية مع الغرب من خلال حلف شمال الأطلسي ومساعيها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. ولكن تبيّن في النهاية أنه من الممكن تخطي هذه العقبات إنما على حساب علاقات تركيا مع إسرائيل.
مرت 16 سنة منذ أن كشف الجنرال شفيق بير، الذي كان آنذاك نائب رئيس الأركان التركي، للحضور في العاصمة الأميركية واشنطن أن أنقرة وتل أبيب رفعتا مستوى الروابط بينهما إلى علاقات استراتيجية تشمل عنصراً أمنياً متيناً. اعتبر البعض تلك المرحل عصراً ذهبياً، حتى لو أصبح هذا المستوى من التعاون والتنسيق جزءاً من الماضي، فلا تزال العلاقات التركية- الإسرائيلية تستحق الإنقاذ. خلال السنوات الأربع الماضية، بُذلت كل الجهود الممكنة لتحقيق هذا الهدف إنما من دون جدوى، وهذا مؤسف بالتأكيد، إلا أن العوائق التي تردع السياسيين الأتراك والإسرائيليين على حد سواء عن تحسين العلاقات بين البلدين كبيرة.
عن الجريدة الكويتية.