أدعو إلى ستر عورة النظام العربي التي انكشفت أثناء العدوان الإسرائيلي على غزة بجهد عربي لإعمار القطاع.
(1)
في صيف عام 1969 «يوم 21 أغسطس» قام مهووس صهيوني اسمه مايكل دينس بإحراق الجامع الشرقي للجامع القبلي في الجهة الجنوبية بالمسجد الأقصى، الأمر الذي أدى إلى تدمير وإتلاف معالمه التي كان منها منبره التاريخي الذي ينسب إلى صلاح الدين الأيوبي، وهو ما أحدث صدمة في العالم العربي والإسلامي، أدت إلى خروج التظاهرات التي طالبت بحماية الأقصى وإنقاذه. فدعا الملك فيصل بن عبدالعزيز زعماء الدول الاسلامية إلى اجتماع طارئ في العاصمة المغربية الرباط. تم خلال شهر «في 22 سبتمبر» وتأسست فيه القمة الإسلامية التي لا تزال مستمرة إلى الآن.
بعد 45 عاماً، في صيف عام 2014 أمر مهووس صهيوني آخر هو بنيامين نتنياهو بتدمير قطاع غزة بأسره وإغراقه في بحر من الدماء والأشلاء والخرائب، في حين وقف زعماء العالم العربي الإسلامي متفرجين وذاهلين، ولم يصدر عنهم بهذه الصفة تحرك يذكر، رغم أن الصدمة كانت أكبر والثمن كان أفدح.
لم يخل الأمر من مفارقة، لأن صدى حريق المسجد الأقصى كان له دويه في العالم العربي والإسلامي في عام 1969، في حين أن العالم الخارجي لم يكترث به كثيراً، أما تدمير غزة هذا العام فقد كان صداه عكسياً، إذ وقف العالم العربي والإسلامي متفرجاً، في حين أن الصدى في العالم الغربي وصولا إلى أميركا اللاتينية كان أفضل بكثير، وربما كانت المفارقة كاشفة عن شيء آخر، فضلا عن متغيرات اتجاهات الريح السياسية بطبيعة الحال، وهو ما يتمثل في أن مفهوم المقدس عندنا يختلف نوعا ما. إذ انه في الوعي الجمعي ينصرف إلى المكان والرموز لكنه لا يضفي الأهمية ذاتها على الحياة الإنسانية التي لها قداستها في الثقافة الغربية، على العكس مما يقرره موروثنا الثقافي الذي يعتبر أن قتل النفس بغير حق بمثابة قتل الناس جميعاً. كما ورد في النص القرآني «سورة المائدة ـ الآية 32».
(2)
الحرب التي استمرت خمسين يوما عرضت غزة لأكبر حملة قتل وتدمير في تاريخها. فحسب بيانات وزارة الصحة الفلسطينية فإن عدد القتلى وصل إلى 2144 شخصاً، منهم 569 طفلا و275 امرأة. أما الجرحى فقد قدر عددهم بنحو عشرة آلاف و600 مواطن. أما التدمير فحصيلته كالتالي: 6300 منزل دمرت بالكامل إضافة إلى عشرة آلاف و300 منزل أصيبت بأضرار جسيمة. وكانت نتيجة ذلك أن تم تشريد ما بين 250 ألفاً إلى300 ألف شخص، ذكرت من قبل أن عددهم نصف مليون، ولم يكن الرقم دقيقاً، وهؤلاء وزعوا على مراكز الإيواء التي كانت المدارس والأماكن العامة عمادها الرئيسي. وللعلم فإن عملية التدمير لم تشمل المباني السكنية فقط، ولكنها استهدفت المستشفيات والمدارس والمساجد والمرافق ومواقع البنية التحتية، ولم تستثن المباني التابعة للأمم المتحدة، ذلك أن القصف الإسرائيلي لم يكتفِ بالتمادي في قتال المدنيين، وإنما استهدف كل ما هو محظور دولياً في زمن الحرب. إذ بدا واضحاً أن القيادة الاسرائيلية تصرفت بانفعال وصل الى حد الجنون، بعدما فوجئت بصمود المقاومة وابتكاراتها وارتفاع مستوى أدائها القتالي الذي هدد الداخل الاسرائىلي ونقل الخوف إليه. لذلك قررت معاقبة كل الفلسطينيين والفتك بهم من خلال القصف الجوي، لأن الطيران كان سلاح التفوق الوحيد الذي لم يكن بمقدور المقاومة أن تتحداه لأسباب مفهومة.
في اتصال هاتفي، قال لي السيد اسماعيل هنية رئيس وزراء حكومة القطاع السابق، ونائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، انه ازاء حملة التدمير التي تعرض لها القطاع فإن قضية الإعمار والإغاثة وتشغيل المرافق العامة تحتل رأس اولويات المرحلة الراهنة. وفى التفاصيل ذكر أن مناطق كاملة تعرضت للتدمير على رأسها بيت حانون والشجاعية وخزاعة ورفح. كما أن أحياء فلسطينية عدة تعرضت لحملة الإبادة بحيث لم يبق منها حجر على حجر. في المقدمة منها أحياء جحر الديك ـ الزنة ـ الفراحين ـ القرارة.
في رأيه أن لنظام غزة مطالب أخرى، بينها استكمال كسر الحصار وفتح المعابر ومواصلة المفاوضات المتعلقة بتشغيل المطار والميناء وإطلاق سراح الأسرى. لكن الإعمار يظل القضية رقم واحد في هموم اللحظة، خصوصا اننا مقبلون على فصل الشتاء الذي يضاعف من معاناة الذين دمرت بيوتهم. من ثم فالوقت امامنا ضيق للغاية، ويتعين ادارة عجلة الإعمار بأسرع ما يمكن خلال الشهرين القادمين.
(3)
في الأخبار أن مؤسسة «شلتر كلامستر» المعنية بتقييم إعادة البناء في أعقاب الصراعات أن إعادة اعمار البيوت والمرافق في قطاع غزة سوف تستغرق 20 عاماً. هذا على افتراض انه تم ترتيب مرور 100 شاحنة محملة بمواد البناء يومياً. وقد نقلت وكالة أنباء الشرق الاوسط المصرية ذلك الخبر في 30/8، مشيرة الى أن المنظمة المذكورة تمثل تكتلا يضم العشرات من وكالات المساعدات التي تنسق الجهود الدولية لتوفير السكن للمتضررين من الصراعات والكوارث. وتشارك في رئاستها وكالة الأمم المتحدة للاجئين والصليب الأحمر.
في ذات الوقت كانت النرويج قد اعلنت عن عقد مؤتمر لإعمار غزة في شهر اكتوبر المقبل، ولكن مصر عرضت استضافته في القاهرة. وتم الاتفاق على ذلك. وقد ذكرت وكالة «معا الاخبارية» أن موضوع إعمار القطاع والمؤتمر المنتظر تمت مناقشتهما بين وزيري الخارجية المصري والأميركي.
التقدير المتداول فلسطينياً أن عملية الإعمار سوف تتكلف ستة مليارات من الدولارات. وليس واضحاً حتى الآن على الأقل الجهات التي ستتولى توفير المبلغ. لكن التقارير الصحافية تحدثت عن مساهمات خليجية متفرقة في عملية الإعمار. فالسعودية أعلنت عن تقديم 580 مليون دولار لأجل ذلك. والهلال الأحمر الاماراتي قدم نحو 40 مليون دولار. والكويت قررت أن تقدم اسهامها الى الصندوق العربي والتنمية. وقطر أعلنت عن تنفيذ ثلاثة مشروعات حيوية إسهاماً منها في الإعمار.
حين سألت مسؤولا في القطاع عن مصير تلك المساعدات، كان رده أن المعلومات قد تكون صحيحة، لكن المبالغ المذكورة لم يصل منها شيء الى غزة وربما تسلمتها جهات أخرى أو أن إجراءات تسليمها لم تستكمل بعد. تستثنى من ذلك المساعدات القطرية التي وجهت الى غزة مباشرة، بصورة نقدية أو عبر مشروعات جار تنفيذها.
(4)
أخشى ما أخشاه أن تتعثر المساعدات المطلوبة، وألا يفي ما يقدم منها باحتياجات الإعمار. وأرجو ألا تتدخل الحساسيات والتحالفات السياسية في توجيه تلك المساعدات. وهي حساسيات بعضها إقليمي وخليجي بالدرجة الاولى، وبعضها فلسطيني لا يزال يعيش بعقلية التنافس والتجاذب السابق بين فتح وحماس ويحاول أن يسقط ذلك على العلاقة بين رام الله وغزة. وللأسف فإن حديث ابو مازن الأخير في الاسبوع الماضي بدا متأثراً بتلك الأجواء، التي يفترض انه تم تجاوزها بعد تشكيل حكومة الوحدة الوطنية.
إن الوقت لا يحتمل تراخياً ولا تلاسناً، لأنني ازعم أن أي شيء من ذلك القبيل يُعدُّ جريمة لا تغتفر. على الأقل في حق مئات الألوف الذين دمرت بيوتهم وشردهم الأعداء، ثم جنى عليهم وضاعف من عذاباتهم مماحكات الأشقاء والأصدقاء.
لا أتوقع في ظل الفرقة العربية الراهنة أن تنعقد قمة عربية لإعمار غزة، مماثلة للقمة الإسلامية التي عقدت قبل 45 عاماً غضباً للمسجد الأقصى. فقد اختلف الزمن واختلف الرجال وتغيرت الأولويات ومنظومة القيم السائدة. فالنظام العربي بات الآن مشغولا بإرهاب «داعش» وغير عابئ بإرهاب اسرائىل التي صارت تدَّعي بأن لها «حلفاء» بين العرب.
وللأسف فإن أي جهد آخر في العالم العربي بات يحتاج الى قرار سياسي، بعدما احكمت الأنظمة العربية قبضتها على المجتمعات العربية. فإذا دعونا الى التنسيق بين اسهامات الإعمار العربية فإن ذلك يحتاج الى قرار سياسي. وإذا اقترحت الاستعانة بجهد وخبرة المعماري الياباني الشهير شاجيرو بان الذي تميز بإبداعه في تصميم منازل لإيواء المنكوبين، ونفذ فكرته في دول عدة ضربتها الزلازل والكوارث الطبيعية مثل رواندا وتركيا والهند والصين واليابان، فلذلك بدوره يحتاج الى قرار سياسي.
وإذا ذكَّرت بالجهود التي بذلتها نقابة المهندسين المصريين واتحاد المهندسين العرب لاستخدام أنقاض المباني المهدمة في إنتاج «بلوكات» توظف في إقامة مبان جديدة فإن ذلك ايضاً مما يتعذر الأخذ به إلا إذا توفر الغطاء السياسي الذي يسمح للمهندسين المصريين والعرب بالقيام بتلك المهمة.
لقد خطر لي أن اقترح إعلان «المؤاخاة» بين بعض المدن والأحياء العربية وبين نظيراتها في غزة، بحيث تتكفل كل مدينة أو حي بنظير له في القطاع ويوفر له احتياجاته من المباني والخدمات والمرافق. وخطر لي أن ذلك سوف يوزع عبء الإعمار على الأمة العربية ويوثق العلاقات بين قبائلها السياسية المتشرذمة والمتنافرة فتتآخى الرياض مع بيت حانون والقاهرة مع رفح والشارقة مع القرارة والرباط مع خزاعة والضاحية في لبنان مع جحر الديك والدوحة مع الشجاعية والجزائر مع الزنة ومسقط مع الفراحين.. إلخ.
لقد استحسن السيد اسماعيل هنية الاقتراح، لكنني وجدت انه يصلح لمقالة تنشر في حين لا ترحب به خرائط الواقع، لأن التنافر الحاصل في العالم العربي بات يستبعد فكرة المؤاخاة بين مكوناته من اساسها. وربما كان الأكثر قبولا في الأجواء الراهنة أن نوقف المؤاخاة السرية التي تمت بين بعض العواصم العربية وبين تل ابيب، لا أن ندعو الى المؤاخاة بين تلك العواصم ومدن القطاع. ولولا أن المكالمة الهاتفية انتهت لأبلغته بأنني عدلت عن الاقتراح وسحبته. وأرجو أن تصله الرسالة عبر هذه المقالة.
عن الشروق المصرية