مدريد ـ «القدس العربي» محمّد محمّد الخطّابي: كانت جريدة «هسبريس» المغربية الإلكترونية قد وضعت مؤخّراً الكاتبَ المغربي بلغة موليير الطّاهر بن جلّون، الحاصل على أكبر تكريم أدبي في فرنسا، وهي جائزة «غونكور» الأدبية، في «خانة قعر نادي النّازلين»، وما انفكّ سهمُه منحدراً نحو الأسفل في إشارة – كما جاء بالحرف على لسان هذه الصّحيفة – إلى تجاوز الأديب المغربي الفرنكوفوني الطاهر بن جلون آنذاك حدودَه الثقافية و«الأدبية» (من الأدب) ليرمي آلافَ المغاربة بالأميّة والجهل، فقط لأنّهم كانوا قد صوّتوا لفائدة حزب «العدالة والتنمية» المغربي، ذي المرجعية الإسلامية، حيث كان قد نعت الكاتبُ المصوّتين لصالح هذا الحزب، الذي كان قد تصدّر آخرَ الانتخابات التشريعية التي جرت في المغرب إبّانئذٍ، بأنهم «جاهلون وأميّون، ولا يدركون معنى الديمقراطيّة الحقيقية».
وكانت الصحيفة قد أردفت في السياق نفسه بالحرف: «أنّ صاحب رواية «الاستئصال» وكأنه قد بدا وصيّاً على عقول وإرادة بني جلدته، فقط لأنهم يخالفون توجّهاته السياسية والأيديولوجية، وكأنّ «هذا الكاتب، الذي يتّخذ من برجه الفرنسي العاجي منجنيقاً يهوي به على مخالفيه، هو صاحب الحقيقة السّاطعة، والحكمة الناصعة، ودونه خرط القتاد». ونذكّر أنّ تصريحات الكاتب الطاهر بنجلون كانت قد لاقت في هذا القبيل الكثير من الامتعاض، والتذمّر والانتقاد من طرف ذوي طينته داخل المغرب وخارجه على حدٍّ سواء قرّاءً وكتّاباً ونقّاداً ومتتبّعين .
بنجلون والبُووم الأدبي الأمريكي اللاّتيني
وتجدر الإشارة، والتذكير كذلك في هذا الصدد، وفي السّياق نفسه أنّ الكاتب الطاهر بنجلون كان قد أدلى بتصريحاتٍ ضمن استطلاع كانت قد أجرته جريدة «الباييس» الإسبانية الواسعة الانتشار مع ثلّة من الكتّاب، والرّوائيين الآخرين المعروفين في العالم الناطق بلغة سيرفانتيس، عن الحركة أو الطّفرة الأدبية الشّهيرة التي يُطلقُ عليها «البّووم» الأدبي الشّهير الذي رفع الإبداع في أمريكا اللاتينية إلى أعلى مراتبه، خلال الخمسين سنة الماضية، حيث تألّقت خلالها أسماء لامعة في العالم الناطق باللغة الإسبانية، أمثال غابرييل غارسيا ماركيز في كولومبيا، وأليخو كاربنتييرفى كوبا، وخوان رولفو، وأكتافيو باث، وكارلوس فوينتيس، في المكسيك، وخورخي لويس بورخيس، وخوليو كورتاثار، وبيّو كاساريس في الأرجنتين، وماريو بارغاس يوسا في البيرو، وميغيل أنخيل أستورياس في غواتيمالا، وسواهم، هذه الحركة أو الطّفرة الأدبية الكبرى التي انطلقت في الستينيّات من القرن المنصرم كانت قد شكّلت حدثاً أدبيّاً مهمّاً، ونقلة نوعية خاصّة في عالم الخلق والإبداع الأدبي، في مختلف بلدان أمريكا اللاتينية على وجه الخصوص .
وحريّ بنا التذكير في هذا الصدد مرّةً أخرى بأهمّ ما قاله الطاهر بنجلون في معرض تقييمه وحديثه عن هذه الحركة، إنه يقول بالحرف الواحد: «عندما كنتُ ما زلت أتابع دراستي في المعهد الفرنسي في مدينة طنجة، كنت أستمع وأنصت بشغف كبير للكاتب الكوبي أليخو كاربنتيير وهو يحدّثنا عن الزخرفة في الأدب، كان رجلاً أنيقاً وطيّباً، وبعد هذه الزيارة التي تركت أثراً عميقاً في نفسي، أهداني الكاتب والمورّخ السينمائي الإسباني إميليو سانث الذي كان يقضي وقتاً طويلاً في طنجة كتاب «مئة عام من العزلة» لغابرييل غارسيا ماركيز مترجَماً إلى اللغة الفرنسية، فانغمستُ بسرعة في قراءة هذا الكتاب، إلاّ انّه لم يشدّني أو يجذبني إليه في البداية بما فيه الكفاية، كان هناك شيء مّا في هذا العالم يمنعني من الدخول في هذه الرّواية التي لم تكن تشبه في شيء ما كنت معتاداً على قراءته من قبل، ولكنّني عدتُ إلى قراءة هذه الرّواية في ما بعد، خاصّة بعد أن اكتشفت العمل الأدبي الاستثنائي للكاتب المكسيكي خوان رولفو، وبفضل بيدرو بارامو دلفتُ في غابة الأدب الأمريكي اللاّتيني الرائعة. واكتشفتُ أنّ رولفو كان قد أثّر في غارسيا ماركيز، كما كان له تأثير في بعض الكتّاب الآخرين من جيله، وألفيتُ بعض الأواصر الأسرية بين عوالم هؤلاء الكتّاب ومبدعين من العالم العربي، حيث كنت أقرأ لكارلوس فوينتيس، وماريو بارغاس يوسا وكأنّهما كاتبان من بلدي».
تأثّره بكبار كُتّاب أمريكا اللاّتينية
ويضيف بنجلّون: «إنّ الأوج الذي أدركته هذه الحركة ممثّلة للأدب الأمريكي اللّاتيني شكّلت حظّاً سعيداً، وطالعاً حسناً للأدب في النصف الثاني من القرن العشرين ، لقد شاء الحظّ أن تهيّأ للعديد من الكتّاب فرصة انتمائهم للجيل نفسه، كما هيّأ لهم فرصة تمتّعهم بالموهبة والخيال في الوقت نفسه. لقد شكّل هؤلاء الكتّاب كوكبة من المبدعين في جميع أنحاء قارة أمريكا اللاّتينية حتى إن كانت أساليبهم الأدبية متباينة، كما كانت المواضيع التي عالجها هؤلاء الكتّاب موجودة في آدابهم على وجه التقريب، ولقد اتّسمت إبداعاتهم بالجرأة، والزّخرفة والتنميق، وطبعت بقلق رائع، كانت إبداعاتهم بقايا سيريالية، ونوعاً من الجنون والجنوح اللذين يتناقضان مع الواقعية الأوروبية، وعدم التكيّف مع واقع النمط الأمريكي، لقد أطلقت هذه الحركة الأدبية العنان لحريّة الخيال». وقال الطّاهر بنجلون «ففيما يتعلّق بتجربتي الشخصّية، وأنا واثق من ذلك، بعد قراءتي للكتّاب: أُونِيتِّي، وبُورخيس، وغارسيا ماركيز، ونيرودا ولآخرين فإنّ كتاباتي حصلت على ترخيص للحُلم والابتكار، فأنا مَدين بهذه الحرية وبهذا التطوّر لذلك الخيال المجنّح الذي ليس له حدود».
لماذا نكتب لأمييّن لا يقرأون ولا يكتبون؟
وكان بنجلّون تماشياً مع حديثه السّابق إيّاه حول الوصف المُجحف الذي نعتَ به بعضاً من بني طينته بأنهم: «جاهلون وأميّون، ولا يدركون معنى الديمقراطية الحقيقية» حسبما أوردته الجريدة المغربية الآنفة الذّكر- «كان قد صرّح خلال الاستطلاع المشار إليه أعلاه: «بأنّه ينتمي لبلد أربعون في المئة من سكّانه أميّون، لا يقرأون ولا يكتبون، وهذه مأساة وعار يندى له الجبين، «، وقال أيضاً: «إنني أعرف أنّ بعض بلدان أمريكا اللاتينية تعاني كذلك من هذه المأساة، وإنّ أحد هؤلاء الكتّاب وأخاله كارلوس فوينتيس سُئل ذات مرّة السّؤال التالي: (لماذا تكتب لقارّة من الأمييّن لا يقرأون ولا يكتبون؟) إنّني أتذكّر جيّداً جوابه وهو ما سأقوله الآن من الذاكرة: «إنني أكتب حتى إن كنت على علمٍ أنّ بلديّاتي، وأبناء جلدتي لا يقرأون لي، ولأنّهم حالوا بينهم وبين تعلّم القراءة، فإنني سأكتب جيّداً، بل بشكلٍ جيّد جدّاً لأنني أريد أن أقدّم لهم ما هو أحسن، لأنّه سيأتي يوم سوف يقرأ فيه هذا الشعب وإذا لم يتسنّ له القراءة اليوم فسوف يقرأ أبناؤه، وعليه فإنّ نصوصي ينبغي أن تكون خالية من النقائص، وبعيدة عن العيوب هذا ما أقوله عندما أُسْأل هذا السؤال».
الفرق كما هو واضح من السّياق أعلاه أنّ هؤلاء الرّوائيين والكتّاب والمبدعين المنتمين لبلدان أمريكا اللاتينية كانوا يكتبون بلغتهم، وهي اللغة القشتالية أو الإسبانية، التي انتشرت في معظم بلدان القارة الأمريكية في شقّها الجنوبي بعد وصول الإسبان إليها، أو فتحهم أو بالأحرى بعد غزوهم لها… في حين أنه – وهو الوحيد بينهم – الذي لم يكتب بلغته الأصليّة، بل بلغةٍ أجنبيةٍ غالباً ما كانت وما برحت تُنعَتُ، أو توصفُ، أو تُسمّى في بلده بلغة المُستعمِر!».
شاهد على عصره
وربما لهذا السّبب كان الطاهر بنجلون يقول من جانب آخر في الإستطلاع السابق نفسه: «إنّ البعض يعتب عليه أنْ لماذا لا يكتب باللغة العربية؟ فهو يكتب بلغة غير لغة بلاده، بل إنّها لغة المُستعمرالدخيل». ويردف قائلاً: «إنّ الذين يعتبون عليّ أنْ لماذا أكتب بالفرنسية بدلاً من اللغة العربية إنما هم يطالبونني بشكلٍ أو بآخر بأن أتخلّى عن الكتابة، لانّهم يعرفون أنّني لا أجيد، ولا أتقن بما فيه الكفاية لغة القرآن لأعبّر بها بطلاقة وسلاسة، كما أفعل ذلك في اللغة الفرنسية «، ويضيف بنجلون في ختام تصريحه: «إنّ جوابي عن هذا السؤال المتعلق بالآداب الأمريكية اللاّتينية يشجّعني ويدعمني للمضيّ قدماً في طريقي ككاتب، إنّني أعتبر نفسي شاهداً على عصري، وشاهداً متتبّعاً وفى بعض الأحيان مشاركاً، أنا لستُ كاتباً متخفيّاً ولا هادئاً، بل إّني أتدخّل، وأدلي بدلوي كمواطن، ولكنّني لن أصل إلى حدّ مزاولة السياسة مثل ماريو بارغاس يوسا».
وأشير بهذه المناسبة إلى أنّ مداخلة الروائي المغربي الطّاهر بنجلّون كانت مُدرَجة في ذيل الاستطلاع الذي أجرته الصّحيفة الإسبانية إيّاها في هذا القبيل، إلاّ أنّني آثرتُ، وتعمّدتُ أن أبوّئها الصّدارة في مقالٍ لي تحت عنوان: (خمسون عاماً مرّت على «البوم» الأدبي الأمريكي اللاّتيني.. كيف يرى الكتّاب المعاصرون هذه الحركة الأدبية الكبرى اليوم؟ سبق أن نشرته («القدس العربي» السنة الرابعة والعشرون العدد 7314 الجمعة 21 ديسمبر/كانون الأول 2012 8 صفر 1434) وكان المقال يعالج هذا الموضوع نفسه، ولا عجب، إذ كان شفيعي في ذلك امتثالاً وعملاً بقول الشّاعر العربي القديم: (لا يسألون أخاهم حين يندبهم / في النّائبات إذا قال برهانا) .
من أعمال الطاهر بنجلون التي نقلت إلى اللغة العربية: «الحبّ الأوّل.. الحبّ الأخير»، و«ليلة الغلطة» و«مأوى الفقراء» أو «نُزل المساكين»، و«ظلال عارية» و« العنصرية كما شرحتها لابنتي»، و«البلد»، و«ليلة القدْر»، و«عشرُ ليالٍ وراوٍ»، و«حنين إلى نكهة الصّبا»، و«طفل من الرّمل»، و«السعادة الزوجية»، و«أن ترحل»، و«تلك العتمة الباهرة»، و«عينان منكسرتان»، و«هلوسات على جدران الوحدة»، وسواها من الأعمال الإبداعية والنقدية في مختلف المضامين والأغراض الأدبية الأخرى.
ونشير بهذه المناسبة في ختام هذه العجالة إلى أنّ «المهرجان الدولي للثقافة الأمازيغية» في نسخته الرابعة عشرة، الذي احتضنته مدينة فاس في الفترة المتراوحة بين 11 و13 من شهر مايو/ أيار الجاري 2018 قد كرّم الرّوائي، والكاتب المغربي باللغة الفرنسية الطاهر بن جلون على مسيرته الأدبية الناجحة في مختلف المجالات الإبداعية.. ألف مبروك لكاتبنا الفذّ.
٭ تصريحات الرّوائي الطاهر بنجلون أعلاه من ترجمة صاحب المقال عن جريدة «البايّيس» الإسبانية.