هنري كيسنجر: عن تشكيل نظام عالمي جديد

2014/09/03
Updated 2014/09/03 at 9:51 صباحًا

daesh-kissinger

تعيش ليبيا في خضم حرب أهلية، وتبني جيوش الأصوليين دولة خلافتها التي أعلنتها عبر سورية والعراق، وتقف ديمقراطية أفغانستان الشابة على حافة الإصابة بالشلل. ويضاف إلى هذه المشاكل تجدد التوترات مع روسيا، وعلاقة مع الصين مقسومة بين الالتزامات بالتعاون وبين تبادل الاتهامات العلنية. وهكذا، يبدو مفهوم النظام العالمي الذي استندت عليه الحقبة الحديثة واقعاً في أزمة.
لطالما تشكل المسعى إلى إقامة نظام عالمي وفق مفاهيم المجتمعات الغربية بشكل شبه حصري. وفي العقود التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، بدأت الولايات المتحدة –معززة باقتصادها وثقتها القومية- بأخذ مشعل القيادة العالمية وأضافت إليها بعداً جديداً. وبوصفها أمة تأسست صراحة على فكرة الحكم الحر والتمثيلي، قرنت الولايات المتحدة صعودها الخاص بنشر الحرية والديمقراطية وأعلت من شأن هذه القوى بوصفها القادرة على تحقيق سلام عادل ودائم. وكانت المقاربة الأوروبية التقليدية إلى هذا النظام تنظر إلى الشعوب والدول باعتبار أنها متنافسة بنيوياً بطبيعتها؛ ومن أجل كبح الآثار التي قد تترتب على الطموحات المتضاربة لهذه الشعوب والدول، اعتمدت أوروبا على خلق توازن للقوى وعلى مجموعة من رجال الدولة المستنيرين. وفي المقابل، اعتبرت النظرة الأميركية السائدة الشعوب منطقية وعاقلة بطبيعتها وميالة إلى التسوية السلمية والحس السليم؛ وبذلك شكل نشر الديمقراطية الغاية العليا للنظام الدولي، حيث ستنهض الأسواق الحرة بالأفراد، وتثري المجتمعات، وتقوم بإحلال الترابط الاقتصادي والاعتمادية المتبادلة محل الخصومات والمنافسات الدولية التقليدية.
هذا الجهد لإقامة نظام عالمي أثمر بالعديد من الطرق. وهناك الآن عدد هائل من الدول المستقلة ذات السيادة التي تحكم معظم مناطق العالم. وقد أصبح انتشار الديمقراطية والحكم التشاركي تطلعاً مشتركاً، إن لم يكن واقعاً عالمياً؛ وأصبحت الاتصالات الكونية والشبكات المالية تعمل في الزمن الحقيقي.
ربما شكلت السنوات من العام 1948 وحتى انعطافة القرن لحظة قصيرة من التاريخ البشري، والتي كان بوسع المرء أن يتحدث فيها عن نظام عالمي ناشئ، مكون من مزيج من المثالية الأميركية والمفاهيم الأوروبية التقليدية عن الدولة وميزان القوى. لكن مناطق شاسعة من العالم لم تتقاسم أبداً هذا الفهم الغربي للنظام، وإنما أذعنت له فقط. وقد أصبحت هذه التحفظات الآن معلنة، على سبيل المثال في الأزمة الأوكرانية وبحر الصين الجنوبي. وأصبح النظام الذي أسسه الغرب وأعلنه يقف الآن عند نقطة تحول.
أولاً، جرى إخضاع طبيعة الدولة نفسها -الوحدة التكوينية الرسمية الأساسية للحياة الدولية- إلى مجموعة متنوعة من الضغوط. فقد انكبت أوروبا على التسامي عن الدولة وعلى صناعة سياسة خارجية تستند في المقام الأول إلى مبادئ القوة الناعمة. لكن من المشكوك فيه أن يكون بوسع أي مزاعم بالشرعية منفصلة عن وجود مفهوم للاستراتيجية أن تصمد في نظام عالمي. لم تقم أوروبا بعد بإعطاء نفسها خصائص الدولة، مستدرجة فراغاً في السلطة على المستوى الداخلي واختلالاً في توازن القوى على طول حدودها. وفي الوقت نفسه، تحللت أجزاء من الشرق الأوسط إلى مكونات طائفية وعرقية تعيش في حالة صراع مع بعضها البعض؛ وتقوم الميليشيات الدينية والقوى التي تدعمها بانتهاك الحدود والسيادة متى أرادت ذلك، منتجة ظاهرة الدول الفاشلة التي لا تستطيع السيطرة على أراضيها الخاصة.
في آسيا، يتسم التحدي القائم بأنه يقف على النقيض مع نظيره في أوروبا: حيث تسود مبادئ ميزان القوى غير مرتبطة بمفهوم متفق عليه للشرعية، وعلى نحو يدفع ببعض الخلافات إلى حافة المواجهة.
بالإضافة إلى ذلك، يعمل الصدام بين الاقتصاد الدولي والمؤسسات السياسية التي تحكمه ظاهرياً على إضعاف الحس بالغاية المشتركة الضروري للنظام العالمي. وقد أصبح النظام الاقتصادي عالمياً، بينما بقيت البنية السياسية للعالم مستندة إلى الدولة القومية. وفي حين تتجاهل العولمة الاقتصادية، في جوهرها، الحدود الوطنية، تقوم السياسة الخارجية بتأكيد هذه الحدود، حتى بينما هي تسعى إلى التوفيق بين الغايات القومية المتعارضة وبين مُثُل النظام العالمي.
هذه الدينامية أنتجت عقوداً من النمو الاقتصادي المستدام، والتي تخللتها أزمات مالية دورية تبدو متسارعة الكثافة: في أميركا اللاتينية في الثمانينيات؛ في آسيا في العام 1997؛ في روسيا في العام 1998؛ في الولايات المتحدة في العام 2001 ومرة أخرى بدءاً من العام 2007؛ في أوروبا بعد العام 2010. ولدى الكاسبين القليل من التحفظات على النظام. لكن الخاسرين –مثل أولئك العالقين في تصميمات هيكلية خاطئة، كما كان الحال مع الجزء الجنوبي من الاتحاد الأوروبي– يلتمسون سبل التعافي والانتصاف بواسطة حلول تلغي، أو تعرقل على الأقل، فعالية النظام الاقتصادي العالمي.
هكذا يجد النظام العالمي نفسه أمام مفارقة: إن ازدهاره يعتمد على نجاح العولمة، لكن العملية تنتج في سياقها رد فعل سياسياً يعمل غالباً ضد تطلعاته نفسها.
ثمة إخفاق ثالث للنظام العالمي الحالي أيضاً، كما هو حاله، هو غياب آلية فعالة تتمكن بموجبها القوى العظمى من التشاور، وربما التعاون بشأن القضايا الأكثر ترابطاً على المستوى المنطقي. وربما يبدو هذا انتقاداً غريباً بالنظر إلى أن هناك العديد من المحافل والمنتديات العالمية القائمة –بقدر أكبر بكثير مما كانت عليه في أي وقت آخر في التاريخ. ومع ذلك، فإن طبيعة ومدى تواتر هذه الاجتماعات تعملان ضد إمكانية وضع استراتيجية بعيدة المدى. وتسمح هذه العملية، في أحسن الأحوال، بالقليل مما هو أبعد من مناقشة القضايا التكتيكية العالقة، وفي أسوئها، بعرض شكل جديد من اجتماعات القمة لتكون مجرد حدث “إعلام اجتماعي”. لن تستطيع أي بنية معاصرة للقواعد والأعراف الدولية، إذا ما كانت تريد أن تكون ذات صلة، أن تترسخ بمجرد بالتصريحات المشتركة وحسب؛ وإنما ينبغي أن تتعزز باعتبارها مسألة قناعة مشتركة.
سوف لن تتجسد عقوبة الفشل في قيام حرب رئيسية بين الدول على الأغلب (ولو أن ذلك يبقى احتمالاً ممكناً في بعض المناطق)، بقدر ما ستكون تحولاً إلى مناطق نفوذ محددة بهياكل وأشكال محلية مخصوصة من الحكم. وعلى أطرافها، سوف تقع كل منطقة تحت إغواء اختبار قوتها ضد كيانات أخرى تعتبرها غير شرعية. ويمكن أن يكون مثل هذا الصراع بين المناطق أكثر إنهاكاً مما كان عليه الصراع بين الدول.
سوف يتطلب السعي المعاصر إلى تشكيل نظام عالمي وضع استراتيجية متساوقة لتأسيس مفهوم للنظام في داخل المناطق المختلفة، ووصل هذه الأنظمة الإقليمية بعضها ببعض. وليست هذه الأهداف قابلة للمصالحة بينها ذاتياً بالضرورة: ربما يقوم انتصار تحرزه حركة راديكالية بتحقيق النظام في إحدى المناطق، بينما يهيئ المسرح لنشوب الفوضى في ومع كل المناطق الأخرى. ويمكن أن تنتج هيمنة جيش دولة واحدة على منطقة، حتى لو كان ذلك يجلب نظاماً ظاهرياً، أزمة لبقية العالم كله.
إن نظاماً عالمياً للدول، والذي يؤكد على الكرامة الفردية والحكم التشاركي، والتعاون الدولي وفقاً للقواعد المتفق عليها، يمكن أن يكون أملنا وينبغي أن يكون غايتنا ومصدر إلهامنا. لكن التقدم باتجاهه سوف يحتاج الاستدامة من خلال سلسلة من المراحل الوسيطة.
من أجل لعب دور مسؤول في تطوير نظام دولي ملائم للقرن الحادي والعشرين، يجب على الولايات المتحدة أن تكون مستعدة للإجابة عن عدد من الأسئلة لنفسها: ما الذي نسعى إلى منعه، بغض النظر عن كيف يحدث ذلك، ووحدنا إذا لزم الأمر؟ ما الذي نسعى إلى تحقيقة، حتى لو أنه لم يتلق دعماً من أي جهد متعدد الأطراف؟ ما الذي نسعى إلى تحقيقة، أو منع حدوثة، فقط إذا كان يحظى بدعم من تحالف؟ ما الذي لا ينبغي لنا أن ننخرط فيه، حتى لو حثتنا على ذلك مجموعة متعددة الأطراف أو تحالف؟ ما هي طبيعة القيم التي سوف نسعى إلى تعزيزها؟ وكم سيعتمد تطبيق هذه القيم على الظروف؟
بالنسبة للولايات المتحدة، سوف يتطلب ذلك التفكير على مستويين متعارضين ظاهرياً. يحتاج الاحتفاء بالمبادئ العالمية إلى أن يقترن باعتراف بواقع تواريخ المناطق الأخرى، وثقافاتها ووجهات نظرها تجاه أمنها. وحتى بينما يجري تفحص دروس العقود الصعبة، فإنه يجب الاستمرار في تأكيد طابع أميركا الاستثنائي. إن التاريخ لا يعرض أي وصفة للبلدان التي تهمش حسها بالهوية لصالح مسار يبدو أقل مشقة. لكنه لا يضمن أيضاً نجاح أكثر القناعات سمواً في غياب استراتيجية جيوسياسية شاملة.

الغد الأردنية

بقلم… هنري كسينجر

Share this Article
Leave a comment

اترك تعليقاً