ها هو مجمل نتائج انتخابات القارة الأوروبية بين خواتيم ٢٠٢٣ وما مر من ٢٠٢٤، من الانتخابات البرلمانية في هولندا وانتخابات البرلمان الأوروبي مروراً بالانتخابات البرلمانية المبكرة في فرنسا ووصولاً إلى انتخابات الولايات الشرقية في ألمانيا، تثبت مجدداً أن صعود اليمين المتطرف في أوروبا صار حقيقة سياسية لا يمكن تجاهلها.
أصبح اليمين المتطرف القوة الانتخابية والسياسية الثانية في عديد البلدان الأوروبية، يسبقه فقط يمين الوسط ويليه اليسار بكل أطيافه الاشتراكية والخضراء.
ومن موقعه الراهن، وليس فوز حزب البديل لألمانيا بانتخابات برلمان ولاية تيرنجن وحلوله ثانياً في برلمان ولاية ساكسونيا سوى علامة إضافية على صعود اليمين المتطرف بعد أن دخل إلى الائتلافات الحاكمة مشاركاً أو ضامناً وبعد أن حقق سياسيوه انتصارات غير متوقعة في انتخابات رئاسية وبرلمانية ومحلية كثيرة، يستطيع يمين فيلدرز الهولندي وماري لوبن الفرنسية وسياسيو الشرق الألماني الشعبويون أن يفرض على جدول أعمال القارة العجوز أولوياته المتمثلة في إغلاق أبواب أوروبا في وجه الأشخاص المهاجرين واللاجئين، والتضييق على من وصل منهم بالفعل، ودفع سياسات الهوية باتجاه وطنيات شوفينية قد تسعى إلى تفتيت الاتحاد الأوروبي ذاته.
• • •
يحدث ذلك بينما أوروبا تعاني من استمرار الحرب الروسية ــ الأوكرانية ومن كلفتها الباهظة إنسانياً واقتصادياً ومالياً وعسكرياً؛ حيث يشتعل سباق تسلح أوروبي يتشابه مع عسكرة القارة خلال الحرب الباردة بين خمسينيات وثمانينيات القرن العشرين وبعد أن ظنت الشعوب الأوروبية أن نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي السابق يضمنان عدم تفجر الحروب على أراضيهم وعدم العودة إلى سباقات تسلح مكلفة وغير مجدية (كسباق الصواريخ النووية متوسطة المدى في ثمانينيات القرن العشرين). وقد ثبت خطأ ظن الأوروبيين.
يحدث ذلك بينما أوروبا بصعود اليمين المتطرف في بلدانها تتماثل أحوالها السياسية والمجتمعية مع غلبة الخطاب السياسي الشعبوي والمتطرف على اليمين في الولايات المتحدة الأميركية حيث يتحول الحزب الجمهوري إلى حزب يسيطر عليه دونالد ترامب، الرئيس السابق والمرشح المعتمد لانتخابات الرئاسة في خريف 2024 والرجل المهووس بترحيل الأشخاص المهاجرين ومنع قدوم مهاجرين جدد إلى الولايات المتحدة، والمقتنع بأولوية تفتيت مؤسسات الديمقراطية الأميركية.
ولا تختلف حالة أوروبا أو حالة الولايات المتحدة عما أفرزته وتفرزه صناديق الانتخابات في بعض بلدان أميركا اللاتينية (البرازيل في بداية العقد الراهن والأرجنتين في الفترة الراهنة) وبعض البلدان الآسيوية التي تعقد بها انتخابات تعددية (الفلبين مثالاً).
وفي عمومية صعود اليمين المتطرف في البلدان الغربية وفي عديد البلدان التي سارت على درب التحول الديمقراطي في الجنوب العالمي ما هو أزمة وجودية كبرى لنموذج الحكم الديمقراطي بمكوناته المرتبطة بتداول السلطة سلمياً وسيادة القانون وحماية الأقليات وضمان حقوق وحريات كل المواطنات والمواطنين دون تمييز.
فاليمين المتطرف يهدد أحياناً بعدم الاعتراف بنتائج الانتخابات إن لم يفز بها.
وفي الموقف العنيف لدونالد ترامب وجموع مؤيديه المتطرفين في أعقاب فوز جو بايدن في انتخابات الرئاسة الأميركية 2020 ونزوعهم نحو عدم الاعتراف بالنتائج وتشكيكهم إلى اليوم في شرعية الانتخابات ما يدلل بوضوح على الخطر الذي يمثله اليمين المتطرف في هذا الصدد.
أما فيما خص سيادة القانون، فاليمين المتطرف لا هم له سوى تفريغها من المضمون والفاعلية. فحزب البديل لألمانيا، والذي حصل على المركز الثاني في انتخابات البرلمان الأوروبي متخلفاً فقط عن الحزب المسيحي الديمقراطي وصار في الشرق الألماني القوة الحزبية الثانية، تورط بعض قياداته في تجمعات سرية تستهدف الانقلاب على النظام الديمقراطي في ألمانيا وتعطيل العمل بالدستور والقوانين، خاصة ما يرتبط منها بضمانات تحمي وجود الأشخاص المهاجرين واللاجئين.
ولا تسجل أحزاب وحركات اليمين المتطرف احتراماً يذكر لمبدأ استقلال القضاء ونزاهة المحاكم، بل يحملون عليه وعليها ويكيلون الاتهامات بحثاً عن مكاسب سياسية.
فيما خص مسألة حماية الأقليات، فاليمين المتطرف ينطلق من خطابات سياسية ومقاربات انتخابية تضطهد الأقليات العرقية والدينية واللغوية وتستدعي نظرة شوفينية للوطنيات في البلدان الأوروبية والولايات المتحدة وفي بلدان الجنوب العالمي هدفها إلغاء وجود الأقليات. ولليمين المتطرف مقاربة بالغة الرجعية والتمييز ضد السود والعرب والمسلمين والنساء من المهاجرات واللاجئات وضد مجموعات قوس قزح.
• • •
في القارة الأوروبية تحديداً، يدفع الصعود غير المسبوق لليمين المتطرف والعنصري إلى حالة من الاستقطاب السياسي والمجتمعي ضحيتها الأولى هو التعايش السلمي والخلاق بين الأغلبيات والأقليات، وضحيتها الثانية هو القبول العام لتجربة الاندماج الأوروبي ولمؤسسات الاتحاد التي تريد ماري لوبن في فرنسا وحزب البديل لألمانيا والأحزاب المتطرفة في هولندا والسويد تفتيتها، وضحيتها الثالثة هي أجندة السياسة في أوروبا التي لم يعد لها من قضية في الصدارة غير أوضاع الأجانب واللاجئين وكأن قضايا كفقر الأطفال واتساع الفجوة بين الفئات الميسورة ومحدودة الدخل وأخطار التغير المناخي لا وزن لها ولا أهمية.
بالقطع، تستنفر أحزاب يمين الوسط وأحزاب اليسار ومعها قطاعات مجتمعية مؤثرة لمواجهة اليمين المتطرف والعنصري، وتتعالى أصوات ذات قبول عام لمطالبة مواطناتهم ومواطنيهم بحسم اختيارهم فإما قبول أوروبا المتنوعة عرقياً والمتسامحة دينياً والمنفتحة (بحساب) على الأجانب واللاجئين وإما التسليم بتحول القارة العجوز إلى قلعة للعنصريين والشوفينيين الذين حتماً سيفتتون اتحادها ويصطنعون توترات خطيرة بين أغلبياتها وأقلياتها.
غير أن الأمر المسلم به أيضاً هو أن مواجهة أمثال لوبن وحزب البديل لألمانيا لن تحسم لا اليوم ولا غداً ولن تنهيها لا انتخابات برلمانية مبكرة في فرنسا ولا تهميشهم في ائتلافات حاكمة جديدة على مستوى الولايات الألمانية.
فقد صار اليمين المتطرف والعنصري من ثوابت السياسة والانتخابات الأوروبية، وصارت قضاياه من مرتكزات النقاش العام ومحددات التفضيلات الشعبية.
والشاهد أن القوى والأحزاب التي تصل إلى مثل هذه الوضعية وتمزج بينها وبين عموم الحضور في كافة أركان القارة العجوز لا يتوقع لها التراجع أو الانزواء قريباً، خاصة ونحن نمر عالمياً بلحظة يشتد فيها ساعد أقصى اليمين غرباً وشرقاً وشمالاً وجنوباً.
• • •
يحدث كل هذا بينما استمرار الحرب الروسية ــ الأوكرانية وغياب أفق الحلين العسكري والسياسي، يختبر في أوروبا حدود الالتزام التقليدي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بدرء الصراعات المسلحة عن أراضي القارة العجوز وحلها سلمياً وقصر التدخلات العسكرية على حالات الضرورة القصوى (الحرب الأهلية في يوغوسلافيا السابقة في تسعينيات القرن العشرين).
اليوم، وبعد تورط الأوروبيين منذ ربيع 2022 في تقديم السلاح والمال لأوكرانيا وفي فرض عقوبات تضرهم هم أيضاً اقتصادياً على روسيا ومع غياب أفق الحل، يواجه الأوروبيون سؤال «وماذا بعد؟» وتتعامل معه حكوماتهم بغموض لا يعجب المواطن/ المواطِنة. فالأغلبية الساحقة من الشعوب الأوروبية، وفقاً لاستطلاعات الرأي العام الأخيرة، تريد إنهاء الحرب بحل سلمى وسياسي وترفض مواصلة تقديم الدعم العسكري والمالي باهظ التكلفة لكييف وتضع علامات استفهام على استقبال النازحين والنازحات من أوكرانيا في بلدان القارة.
يحدث كل هذا، وحكومات أوروبا لا تعيد النظر في سياساتها وقراراتها ومن ثم تفتح الباب على مصراعيه لتعبير الناخبات والناخبين عن غضبهم في صندوق الأصوات بتأييد أقصى اليمين وأحياناً بالتصويت لأقصى اليسار حين يتبنى نفس الرفض للحرب وذات الشعبوية ضد الأشخاص المهاجرين واللاجئين (تحالف سارة فاجنكنشت الألمانية ونتائجه في انتخابات برلمانات ولايتي تيرنجن وساكسونيا نموذجاً).
عن صحيفة الايام