يبدو اننا نعيش زمن المآزق الاستراتيجية. فقد كشفت الحرب العدوانية على شعبنا الفلسطيني في غزة والضفة والقدس وامتدادها إلى لبنان مع كل ما حملته من انعكاسات على الاقليم، أن لكل طرف مأزقه واشكالياته وأهدافه. فتصارع مصالح القوى الدولية والإقليمية والمحلية في منطقتنا جعلها سجينة طموحاتها وأهدافها. ومع اتساع الهوة بين هذه الأهداف وتزايد حدة الصراع، يدفع شعبنا الفلسطيني الضريبة الغالية من دمه في حرب إبادة يقف أمامها العالم متفرجا وكأنه أمام عرض مسرحي.
الكل غارق في سجن أحلامه وطموحاته. صحيح أن لكل دولة الحق في بناء أهدافها بما يتناسب مع مصالحها الوطنية ومصالح شعبها ، على أن لا يشكل دلك اعتداءا على مصالح الدول والشعوب الأخرى. أما في الحالة الفلسطينية ، فإن الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها تحولوا إلى شركاء حقيقيين لدولة الاحتلال في حرب الإبادة والتطهير العرقي، ولا يرون ضيرا في ذلك طالما أن الأهداف واحدة وطالما أن دولة الإحتلال تمثل قاعدتهم المتقدمة في المنطقة والشرق، وبذلك أصبحوا أسرى طموحات نتنياهو ونرجسيته، لا سيما وأنه بارع جدا في انتهاز الفرص واستثمار الذرائع واستخدام الوقت الضائع بين ادارتين في الولايات المتحدة. أما من كان يراهن على أي تغيير في نهج الإدارة، فالأسماء تتبدل والبضاعة واحدة. وهذا ما لاحظناه خلال فترة الانتخابات الأمريكية، حيث عاش الحزب الديمقراطي أزمة حقيقية تمثلت بابتعاد الصوت العربي عنه لأسباب منها بيعه للأوهام بشأن قضيتنا مع استمراره تقديم أدوات القتل لدولة الاحتلال ، إضافة إلى أسباب أخرى داخلية.
أما دولنا العربية، فبعضها وخاصة تلك الصغيرة كدولة الإمارات وقطر والتي لا يتعدى عدد سكان كل منها مئات الآلاف بينما يقطنها الملايين من دول جنوب شرق آسيا وغيرها، فإنها ترى أن المخرج من مأزقها الاستراتيجي الديمغرافي وضمان وجودها يكمن في تحولها إلى أنظمة وظيفية تخدم أجندات الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل. لذلك ليس غريبا عليها العمل لسنوات على تعزيز الانقسام الفلسطيني، كذلك رسم خطط لليوم التالي للحرب على غزة تتناغم فيها مع المشاريع الأمريكية والإسرائيلية للمنطقة فيما يسمى بالشرق الأوسط الجديد والذي يرى فيه نتنياهو خشبة الخلاص من كل مآزقه الذاتية كما مآزق كيانه.
وعلى الضفة الأخرى فإن دولا و قوى عربية اوقعت نفسها في مأزق استراتيجي حقيقي حين ارتضت الخضوع لمحاور إقليمية لتصبح مجرد ذراع أو أداة للإستخدام خدمة لمصالح تلك الدولة او ذلك المحور ، والذريعة دائما فلسطين.
أما الطامة الكبرى فهي داخل الساحة الفلسطينية التي تترنح فيها بعض القوى بين انتماءها الأخواني وتحالفها الولائي في وصفة هجينة تزيد المشهد تعقيدا. ورغم محاولات الكثيرين ايجاد تفسير لهذه الوصفة باعتبارها انعكاسا لبراغماتية سياسية حيث تسعى كل جهة لتحقيق مصالحها الاستراتيجية من خلال التعاون مع الأخرى. إلا أن السؤال الأساسي يبقى أين فلسطين الوطن والدولة من هذا الخليط، حيث لا وجود لمفهوم “الوطن” في الفكر الإخواني الذي يتجاوز جغرافيا الدول، كذلك الفكر الولائي الذي يؤمن بتصدير الثورات لتوسيع رقعة نفوذه تحت لواء ولاية الفقيه. هذه الصورة لا بد وأن تخرج يوما ما من دائرة البراغماتية لتشكل مأزقا استراتيجيا للحركة في مرحلة معينة.
لكن ما هو مستغرب اليوم، وفي الوقت الذي لا زالت فيه شهوة الإبادة والاستيطان تغرز انيابها في غزة والضفة والقدس، هو استمرار العناد في رفع السقوف فيما يتعلق بالتوافق الوطني والقواسم المشتركة أو في الرؤية حول مستقبل قطاع غزة وإدارته. ولن نعود إلى الوراء لتعداد اللقاءات وجولات الحوار مع الفصائل في العديد من العواصم العربية والعالمية، والتي غالبا ما كانت تنتهي في حقيقة الأمر بلا شيء سوى العودة للتشاور واستكمال النقاش. ومع فهمنا العميق وإدراكنا لمدى التناقض بين مشروعنا الوطني الذي تمثله منظمة التحرير الفلسطينية والهادف إلى التحرر وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف وحق العودة، وبين مشروعهم الأخواني ذات الارتباطات الإقليمية والذي لا يعترف بجغرافيا الأوطان ولا بحدود الدول، إلا أن التعويل كان دائما على الحس الوطني وعلى ضرورة إدراك مدى خطورة هذه المرحلة المفصلية من تاريخ قضيتنا ونضالنا في ظل حكومة صهيونية دينية يمينية متطرفة تعتقد أنه آن الأوان لحسم الصراع وتصفية القضية الفلسطينية، ومسلحة بدعم أمريكي وغربي كامل و تآمر من البعض العربي وصمت من البعض الآخر.
فما رشح من مواقف لممثلي حماس في المناقشات التي جرت بين وفدهم ووفد حركة فتح خلال اجتماعاتهم في القاهرة قبل فترة وجيزة يؤكد استمرار غلبة الفكر العقائدي وهيمنة الارتباط الإقليمي على حساب المصلحة الوطنية الفلسطينية. فللوهلة الأولى بدا أن التوافق على إنشاء لجنة للإسناد المجتمعي بالقطاع المكلوم بعد الحرب أمرا يدعو إلى بعض التفاؤل بغض النظر عن التسميات التي طرحت لهذه اللجنة. لكن حين الخوض في التفاصيل لا سيما حول مرجعيات اللجنة وصلاحياتها، يتبين أن الخلاف عميق جدا ويتعلق مباشرة بالمس بالمشروع الوطني وبمستقبل السلطة والدولة ووحدة الأرض والقضية الفلسطينية بشكل عام.
ومع أن دور هذه اللجنة ينحصر في القضايا الانسانية ، إلا أن ما تم طرحه من ممثلي حماس من استقلال مالي لهذه اللجنة دون المرور عبر الحكومة الفلسطينية يحولها إلى جهة سياسية مستقلة، وبذلك تتم شرعنة فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية، وهو ما عمل عليه نتنياهو ودولة الاحتلال منذ سنوات من خلال تسهيل تمرير الأموال عبر مطار بن غوريون إلى حركة حماس، مع تجفيف لمصادر السلطة المالية وتقطيع أوصال الضفة. كذلك فإن الإصرار على تنحية السلطة الوطنية ومنظمة التحرير عن أي دور سوى توقيع الرئيس على مرسوم تشكيل اللجنة ، وإخضاعها لسلطة إطار قيادي أو هيئة موسعة مع تجاهل لأي دور للمنظمة إنما يعني إصرارا على النهج القديم في ادامة أمد الانقسام وضربا لوحدانية تمثيل منظمة التحرير لشعبنا الفلسطيني في كل أماكن تواجده، ناهيك عن مطالبتهم باحتكار الأمن في القطاع من خلال شرطتهم المحلية.
من العجيب طرح هذه السقوف العالية وكأن القطاع ليس محتلا، وكأن قطار القتل والتدمير والأبادة قد توقف. صحيح أنه يجب العمل على التخطيط لمرحلة اليوم التالي، لكن يجب أخذ العبر واستخلاص الدروس والولوج إلى مفهوم الوطن ، والعمل بما يخدم مصلحة شعبنا الفلسطيني وفي مقدمها امتلاك الجرأة لفك الارتباطات الإقليمية ، والارتهان فقط لإرادة شعبنا في إنهاء المعاناة وبناء دولته ونظامه الوطني وحقه في العودة. فشعبنا يريد وطنا، ولا يريد أن يكون أداة في دوامة المصالح الاقليمية .