لا اتفاق بين السوريين على توصيف حالهم اليوم. الاختلاف لم يعد أسير معسكري المعارضة والنظام، وإذا كان الأخير لا يزال محافظاً على تماسك خطابه ظاهرياً، فإن المعارضة، المنقسمة أصلاً، باتت أكثر انقساماً حيال واقع شديد التعقيد، وصار خطابها متخلفاً عن الوقائع التي يخلقها النظام، أو التي تخلقها الكتائب المعارضة.
البعض من المعارضة لا يزال يصرّ على أن الثورة مستمرة على رغم كل المستجدات، والبعض الآخر يعلن أن الثورة انتهت، غير أن اختلاف الطرفين لا يزال مبنياً على رؤية مشتركة للوطن السوري، رؤية ترى سقوطاً للنظام لا بد من أن يحدث عاجلاً أو آجلاً وتعود سورية إلى سابق عهدها من دونه، ورؤية ترى في انتصارات النظام العسكرية عودة إلى ما كان عليه الوضع قبل آذار (مارس) 2011.
بلا شك، عيش السوريين لما يقارب خمسة عقود في ظل حكم مركزي قوي جعلهم متشرّبين بفكرة المركزية، وكانت أدبيات المعارضة دائماً ترى العيب في تطبيقها لا في جوهرها، الجوهر الذي قد لا يتناسب مع الحالة السورية. أيضاً الجوهر الذي لم تلامسه الشعارات الأولى للثورة، ولا النسبة الكبيرة من الكتابات النظرية المرافقة لها. ثمة نقمة عارمة على الدولة، كانت تُرد طوال الوقت إلى النظام الأمني المهيمن عليها، واشتُغل كثيراً على فكرة الفصل بين النظام والدولة. في الواقع كانت نسبة متزايدة من السوريين لا تقيم هذا الفصل لأنها لم تختبر نموذجاً آخر، فأصبحت الدولة من وجهة نظرها مصدر الشرور والإرهاب والقتل، بعدما كانت في أوقات السلم مصدر الإفقار والتسلط الاقتصادي.
التحليلات الاقتصادية القليلة ركزت على انتشار الثورة في المناطق المهمشة أو المحرومة، لكنها على الأغلب قسمت البلد بين أرياف محرومة ومدن ثرية، أو اتبعت التحليل الماركسي بطريقة واضحة التعميم، فلم تلامس الحالة السورية الخاصة حيث نجد مدناً وأقضية مهمشة بأكملها مع أنها كانت المصدر الأكبر للثروات التي تُجبى لمصلحة المركز. على تفاوت منسوب المظلومية، لم يكن ما يُنفق في مدينة حلب مثلاً متوازناً مع ما تجبيه للخزينة العامة. قبل الثورة بنحو ست سنوات كانت النسبة لمصلحة الخزينة المركزية بمقدار واحد إلى عشرة. أما المحافظات الشرقية والجزيرة التي تعد احتياطي البلاد من الحبوب والنفط فيُرجح أن تكون مظلوميتها أكبر.
سيكون من التسرع نقد تجربة الدولة البعثية فقط بناء على فشلها في مشروع الاندماج الوطني. فالتعدد الطائفي والإثني وحده لا يفسر عمومية النقمة على الدولة، وقد لا يكون المدخل الوحيد لحل معضلة الدولة بتقسيمها على أساسه. شيء مشابه للتقسيم المفترض نراه اليوم بين الأسد و «داعش»، حيث يتنافس الطرفان على الإمساك بالطوائف من خلال السيطرة على منابع الثروة العامة، وفيما عدا الوجه الاجتماعي البشع لـ «داعش»، فإننا نراه يمسك بالمصادر الاقتصادية، ولا يقيم وزناً لكونها ملكاً عاماً، على نحو لا يباريه فيه سوى النظام. أي أن تجزئة المركزية، مع الحفاظ عليها، لن تؤدي إلا إلى بؤر احتقان جديدة، ومن المرجح أن تساهم في زيادة منسوب التطرف والكراهية في المنطقة ككل، تماماً على المنوال الذي أشاعته أنظمة الاستبداد الحالية من تغطية على التناقضات الداخلية الأخرى.
قبل عقدين من اندلاع الثورات العربية، كان مبتذلاً القول بأن الشيوعية جيدة وما سقط هو تطبيقها الرديء، مثلما سيكون مبتذلاً القول بأن العلة هنا في الأنظمة لا في الدولة ذاتها. باستثناء مصر، التي أعيد الإمساك بها جيداً والتي تملك إرثاً بيروقراطياً راسخاً، لا يمكن رد النزعات اللامركزية أو الانفصالية في دول الربيع العربي فقط إلى الفوضى التي تعقب الثورات، إلا إذا كنا ننتظر حقبة كاملة من الفوضى يُعاد خلالها تشكيل الجغرافيا السياسية. تشرذم المعارضة السورية المتزايد مع طول أمد الثورة، وفي ما عدا تهافت الأداء الشخصي، يمكن ردّ نسبة كبيرة منه إلى النفور من المركزية، النفور الذي يمنع المناطق الخارجة عن سيطرة النظام من الانضواء في جسم سياسي أو عسكري موحد. ببساطة، أولئك الخارجون على النظام ليسوا مستعدين، راهناً على الأقل، للانضواء تحت شبهة أي نظام آخر.
حلفاء النظام، وفق التسريبات الصحافية، التقطوا الفكرة، وراحوا يروجون لمصالحات مناطقية بين النظام والكتائب المحلية، على قاعدة تخلي الأول عن جزء من السطوة التي لم يعد يمتلكها فعلياً، ولكن أيضاً على قاعدة تطلع بعض قادة الحرب إلى حلول جزئية مناسبة لهم، بصرف النظر عن تأثيرها في مجمل الحالة السورية. سقف هذا التوجه هو منح سلطات إدارية لزعامات محلية، بينما يبقى المركز ممسكاً بالأجهزة التنفيذية الفاعلة من جيش وأجهزة مخابرات، ويبقى أيضاً محتكراً الثروات العامة وسبل إدارتها وتوزيعها، أي أن ذلك بمثابة التفاف ماكر على فكرة اللامركزية، مثلما هو التفاف على عدم قدرته على بسط السيطرة الأمنية القديمة على كل الأراضي. النظام الذي رفض حداً أدنى من الإصلاحات قبل أربعين شهراً ليس مرشحاً للمضي قدماً وجدياً في إنهاء دولته، لأن إنهاءها يعني سقوطه تلقائياً.
اللامركزية الوحيدة التي اختُبرت في المنطقة هي التجربة الإماراتية، ومن المعلوم أن المنطقة (التي كان يُشار إليها باسم مشيخات الخليج) شهدت حتى أثناء السيطرة البريطانية صراعات داخلية مستمرة، ونرى في الأدبيات التي تركها قادة إنكليز عن تلك الحقبة تململاً واضحاً من عدم قدرتهم على فرض الاستقرار والسلم بين الزعماء المحليين.
المفارقة أن النموذج الإماراتي كان يصعد في العقود البائسة لدول طالما قدمت نفسها على أنها أكثر رسوخاً. في هذه الدول أحدثت الثورات فعلها التخريبي الكبير، ولعلها قامت بالخطوة الأخيرة التي لا تستطيع الأنظمة القيام بها، أي الانقضاض على الدولة بعد الانقضاض على المجتمع! وبقدر ما استلزمت الثورة من جرأة، قد تكون الجرأة مطلوبة للقول: وداعاً أيتها الدولة البائسة. تقاسم إرث الدولة لن يقدّم حلاً ناجعاً للورثة، والمطلوب بالأحرى دفن الإرث مع الدولة ونظامها، والتفكر الجاد في دول أضعف من جماعاتها بحيث لا يُنظر إليها كغنيمة أو مشروع حرب.