أعادت نتائج الانتخابات البلدية تشكيل المشهد السياسي التركي من جديد، على الرغم من كونها انتخابات محلية، لأن فقدان حزب العدالة والتنمية العاصمة أنقرة، بوصفها العاصمة السياسية، وإسطنبول، بوصفها العاصمة الاقتصادية والسياحية، أعطى نتائج هذه الانتخابات معنى سياسياً، يرتقي إلى مصاف استفتاء شعبي على مرحلة سياسية، سيطر فيها حزب العدالة على المشهد السياسي والاقتصادي التركي.
كان يفترض أن يكون تأثير نتائج الانتخابات البلدية محدودا، لكنه في الحالة التركية كان صاخبا، وعكست النتائج موقف الشارع من أردوغان منذ تفرده بالسلطة واحتكار القرار الاقتصادي وصولا إلى أن تتدحرج العملة التركية ككرة ثلج. إنه صخب انتقال دولة مسلمة كانت وحيدة في طريق التحديث والديمقراطية إلى دولة عالمثالثية، وتبهيت صورة تركيا، إنه صخب هزيمة ثقافية عميقة للعالم المسلم كله وليس فقط تركيا.
فلطالما شكل أردوغان رافعة مهمة لإنجاح ما كان يعرف عالميا بـ»النموذج التركي»، الذي تألَّق من 2003 وحتى 2013، فمنذ كمال أتاتورك، مؤسس جمهورية تركيا الحديثة، لم يقلب أحد تركيا رأساً على عقب مثلما فعل أردوغان. قاد الرجل انقلابا حضاريا نقل تركيا من علمانية خشنة ومفرطة في موقفها المناهض من مظاهر التدين، إلى ما أطلق عليه أردوغان علمانية متصالحة مع الإسلام.
هذا النموذج بدأ ينهار إثر الردة السياسية التي ضربت تركيا، خصوصا منذ محاولة 2016 الانقلابية الفاشلة، وأدت إلى هجوم أردوغان المقصود والمبيت على الصحافة والقضاء والبوليس والنخبة الشبابية والليبرالية الطليعية. ولكن أردوغان خسر أكثر من شعبيته عندما انتهت مرحلة النهوض الاقتصادي الكبير، التي بدأت مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم، إذ إن البحبوحة الاقتصادية التي تمتعت بها فئات من الفقراء والطبقة الوسطى، خاصة في المدن، قد ولتّ، وطفق الاقتصاد التركي يترنح على وقع الركود المتنامي، ونسبة البطالة العالية، والتضخم، وتدهور الليرة التركية، وأمور كثيرة تمس الحياة اليومية للمواطن التركي. وبالتوازي مع ذلك، بدأ أردوغان يترنح ثقافيا، مع تصدع سردية الإسلام التركي الليبيرالي الحداثي المتصالح مع الآخر، على نحو ما تجلى في تورط حكومة أردوغان مع تنظيمات راديكالية جهادية متطرفة على شاكلة «داعش»، ومع تتويج النظام الرئاسي، رجب أردوغان، سلطاناً عثمانياً بنسخة جديدة، وحاكماً وحيداً لتركيا، بعد أن ألغى منصب رئيس الوزراء، وغابت بشكل شبه كامل الضوابط والتوازنات المعمول بها في الديمقراطيات الليبرالية، أي أن تركيا أردوغان أصبحت نظاماً سلطوياً ممأسساً. ولم يكترث قادة الحزب الحاكم بالإرهاصات التي جلبها دخول تركيا مرحلة النظام الرئاسي، وأفضت إلى إثارة غبار كثيف في المجتمع التركي، المفعم أصلا بالتجاذبات التاريخية، بالنظر إلى طبيعة الهويات المركبة فيه، ما بين الشرق والغرب.
وكان قد سبقت ذلك، هزيمة أخلاقية تلقاها حزب العدالة والتنمية، بعدما خاض رئيسه أردوغان صراعا ضاريا مع حليف الأمس الداعية فتح الله غولن، فأردوغان لا يعتبر شخصا ما في العالم عدوا له كما يعتبر فتح الله غولن، المقيم حاليا في بنسلفانيا بالولايات المتحدة الأميركية، والذي يطالب أردوغان السلطات الأميركية بتسليمه، حيث اتهمه بتدبير محاولة الانقلاب عليه في العام 2016 وسجن ستين ألفا من اتباعه، لكن أردوغان لم يكن ليصعد إلى سدة الحكم لولا غولن زعيم جماعة «الخدمة الصوفية» الذي لعب دورا خفيا في مساعدة أردوغان في أيامه الأولى في منصب رئيس الوزراء بعد خروجه من السجن، عبر امتلاكه قاعدة ضخمة من رجال الأعمال الذين قدموا دعما قويا لحزب العدالة والتنمية في بدايات صعوده إلى سدة الحكم.
ويواصل رجب أردوغان اعتناق وهم الباب العالي، والإمبراطورية العثمانية التي شيعتها الحرب العالمية الأولى، في زمن يدفع صاحبه كلفة ثقيلة جراء اعتناقه هذا النوع من الأوهام. أليس غريباً أن يصر أردوغان على أن يكون قصره من ألف غرفة، عدد غرف قصر نيكولاي تشاوشيسكو؟ أليس غريباً أن يفاخر، مثل صدام حسين، بمغامراته العسكرية وصموده، فيما تتساقط الليرة التركية. وكيف يمكننا أن نفهم أهداف الغرور والعناد والجموح، الذي يجعل دولة مركزية مثل تركيا تصنع من مصر والسعودية والخليج أعداء لها؟ لقد أضاع أردوغان فرصا كبيرة بعناده، فقد كانت لديه الفرصة أن يجعل بلاده الشريك الاستراتيجي الأبرز مع أكبر ثلاث أسواق في المنطقة: السعودية ومصر والإمارات.
وألقى ضمور الإنجازات وتيبس النجاحات خلال السنوات القليلة المنقضية، بظلاله على الخطاب السياسي لحزب العدالة واستراتيجيته الانتخابية، الذي أصبح يدنو من اليمين الديني الموغل في التسلط وتسييس الدين وتوظيفه انتخابياً، على نحو يجعله أقرب إلى النمط الإيراني الثيوقراطي، وإن بصبغة سُنية. ومن ثم، لم يتورع الحزب عن تحري كافة السبل الكفيلة بتعويض نزف الشعبية المتواصل من خلال التحالف مع حزب الحركة القومية اليميني المتشدد، وتجميد مبادرات الحوار والتسوية السياسية مع حزب العمال الكردستاني. وجاءت السياسات والمغامرات العسكرية الخارجية المثيرة والاستنزافية، كالإصرار على التدخل العسكري المكلف اقتصادياً واستراتيجياً في سورية والعراق، فضلاً عن إقامة قواعد عسكرية في الصومال وقطر، للتغطية على الإخفاقات الداخلية.
لم يخسر أردوغان الانتخابات البلدية، بالمعنى الحرفي، ولا يجرؤ أحد من خصوم أردوغان في داخل تركيا وخارجها، على تصور نتائج للانتخابات تطوي عهد الرجل، وهو الذي وسم المرحلة بصوابه وخطئه، وشطحاته وبراغماتية، وانقلاباته وتحالفاته، وحقق لتركيا في عهده حضوراً فاعلاً، وملتبساً، في أزمات الشرق الأوسط، بعد رحلة صعوده الصاروخي منذ فوزه بمنصب رئيس بلدية إسطنبول، ثم اختياره رئيساً للوزراء، ولاحقاً رئيساً لتركيا في أول انتخابات رئاسية.
لكن نستطيع أن نقول وداعا تركيا، بعد إسدال الستار على النموذج التركي الذي يديره السياسي الذي تحول إلى أكبر مناور في تاريخ الجمهورية التركية… انكشاري معاصر تسلل ببراعة عبر الثقوب الديمقراطية التركية، حاملا شعارات المظلومية التاريخية للتيار الديني، لينهي تجربة استثنائية في التحديث السياسي والاقتصادي، إنه رجب طيب أردوغان.