أراد منظِّموها أن تكون عُرسًا كبيرًا فاخرًا وأسطوريًا؛ إلا أنّ الفلسطينيين – وهم أصحاب الشأن، ولا ينبغي لأحد أن يتّخذ القرارات نيابة عنهم – جعلوا منها مأتمًا، حيث كانت الوجوه كئيبة، رغم الأضواء الكاشفة المركزة، التي نقلت الحدث للعالم عبر الفضائيات. هذه هي الصورة التي ظهرت بها ورشة المنامة التي اختُتمت مساء الأربعاء 26/6/2019، بعد يومين من الثرثرات التي لا تُسمن ولا تغني من جوع؛ وهي الورشة التي أطلقت فيها واشنطن الجانب الاقتصادي من خطتها للسلام في الشرق الأوسط، المعروفة باسم “صفقة القرن”، ممّا جعل مهندسَها جاريد كوشنر المستشار في البيت الأبيض وصهر الرئيس ترامب والمتخصص في المقاولات والإنشاءات، يتهم القيادة الفلسطينية بالفشل في مساعدة شعبها؛ بسبب مقاطعة الفلسطينيين للورشة، لأنها تركز على الجانب الاقتصادي قبل التطرق إلى الحلول السياسية الممكنة لجوهر النزاع؛ وهو ما وضح تمامًا في البيان الختامي للورشة، الذي لم يتطرق إلى حقوق الفلسطينيين ولا أوضاعهم تحت الاحتلال؛ وإنما ركزت المناقشات على تطوير القوى العاملة، عبر تمكين المرأة، لأنها “السلاح السري للقوة العاملة” حسب البيان؛ وهي ظاهرة أصبحت تتكرر كثيرًا باستغلال كلمة “النساء” في كلِّ أمر وشأن.
إنّ غياب العريس عن الزفة، أربك وأضاع كلَّ الخطط؛ وأسقط الشرعية عنها، فقد حضر الجميع فيما غاب عنها العريس؛ ومع ذلك فإنّ هذا الغياب لم يمنع إقامة مراسم الزفاف، التي رقص المشاركون فيها رقصات على أنغام أمريكية إسرائيلية قادها كوشنر؛ وكانت الأغنيات كلها تدور حول بيع فلسطين إلى الأبد.
ولكن لماذا رفض الفلسطينيون الحضور إلى المنامة؟ سؤالٌ طرحه البعض عندما قرأ إعلان أمريكا أنّ خطتها للسلام تهدف إلى جمع استثمارات تتجاوز قيمتها 50 مليار دولار لصالح الفلسطينيين، وإلى خلق مليون فرصة عمل لهم ومضاعفة اجمالي ناتجهم المحلي خلال عشرة أعوام. ربما نجد الإجابة على السؤال، فيما نشرته صحيفة “يسرائيل هيوم” العبرية، يوم الثلاثاء 25/6/2019 عن وثيقة ورشة المنامة. وما نشرته يدل دلالة قاطعة أنّ هدف صفقة القرن هو إنهاء القضية الفلسطينية تمامًا، تحت مسمى وهمي هو “من السلام إلى الإزدهار”، وهو تكملة للشعار السابق الذي لم يُطبّق على أرض الواقع “الأرض مقابل السلام”.
تقول الصحيفة إنّ بنود الوثيقة تنص على “توقيع اتفاق ثلاثي بين إسرائيل ومنظمة التحرير وحماس، وتقام دولة فلسطينية يطلق عليها “فلسطين الجديدة” على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة، من دون المستوطنات اليهودية القائمة.
أما عن القدس، فلن يتم تقسيمها، وستكون مشتركة بين إسرائيل وفلسطين الجديدة، مع بقائها عاصمة لإسرائيل، ويُنقل السكان العرب ليصبحوا سكانًا في فلسطين الجديدة، وتكون بلدية القدس مسؤولة عن جميع أراضي القدس، باستثناء التعليم الذي تتولاه فلسطين الجديدة، التي ستدفع لبلدية القدس اليهودية الضريبة.
أما عن غزة، فإن مصر ستقوم بمنح أراض جديدة لفلسطين، لغرض إقامة مطار ومصانع وللتبادل التجاري والزراعة، دون السماح للفلسطينيين بالسكن فيها؛ وهذا أمرٌ عجيبٌ في الاتفاقيات الدولية؛ فكيف لدولة لا تملك مطارًا ومصانع في أرضها وإنما تكون في أرض الغير؟!. وتشير الوثيقة إلى أن حجم الأراضي وثمنها يكون متفقا عليه بين الأطراف بواسطة الدول المؤيدة. وأحد المشروعات الرئيسية المقترحة، إقامة جسر لتنقل الفلسطينيين بين الضفة الغربية وقطاع غزة، حيث تبلغ أقصر مسافة بين الضفة الغربية وقطاع غزة نحو 40 كيلومترا. ويُسمح بإقامة ناقل للمياه المعالجة تحت أراض بين غزة وبين الضفة. والأمر العجيب أنّ الوثيقة تقول “يمنع على فلسطين الجديدة أن يكون لها جيش؛ والسلاحُ الوحيد المسموح به هو سلاح الشرطة الإسرائيلية التي ستحميها؛ وسيتم توقيع اتفاق بين إسرائيل وفلسطين الجديدة على أن تتولى إسرائيل الدفاع عن فلسطين الجديدة من أيِّ عدوان خارجي، بشرط أن تدفع فلسطين الجديدة لإسرائيل ثمن دفاع هذه الحماية، ويتم التفاوض بين إسرائيل والدول العربية على قيمة ما سيدفعه العرب للجيش الإسرائيلي ثمنًا للحماية.
وعند توقيع الاتفاقية، تفكك حركة حماس جميع أسلحتها، ويشمل ذلك السلاح الفردي والشخصي لقادة حماس، ويتم تسليمه للمصريين، ويأخذ رجال حماس بدلا عن ذلك رواتب شهرية من الدول العربية. هل انتهى الأمر عند هذا الحد؟ لا، فالوثيقة تقول: “في حال رفضت حماس ومنظمة التحرير الفلسطينية الصفقة، فإنّ الولايات المتحدة سوف تلغي كلَّ دعمها المالي للفلسطينيين، وتعمل جاهدة لمنع أيِّ دولة أخرى من مساعدة الفلسطينيين، وإذا وافقت منظمة التحرير الفلسطينية على شروط هذا الاتفاق ولم توافق حماس أو الجهاد الإسلامي، يتحمل التنظيمان المسؤولية. وفي أي مواجهة عسكرية بين إسرائيل وحماس، ستدعم الولايات المتحدة إسرائيل لإلحاق الأذى شخصيًا بقادة حماس والجهاد الإسلامي”.
لم يعد سرًا ما تهدف إليه صفقة القرن؛ فرغم الترويج الأمريكي بأنّ الهدف الأساسي من الصفقة تحقيق الازدهار في المنطقة، إلا أنها في حقيقة الأمر هي تستهدف تصفية القضية الفلسطينية، ومنع إقامة دولة فلسطينية، مع إسقاط حقِّ العودة، وإسكان الفلسطينيين في سيناء والأردن، واعتبار القدس عاصمة لإسرائيل، مع القضاء التام على حركات المقاومة، مثل حماس والجهاد الإسلامي؛ ومع ما يشهده الشعب الفلسطيني من انقسامات إلا أنهم اتفقوا جميعًا على رفض صفقة القرن. وقد حوّل عدم حضور الفلسطينيين ورشة المنامة من عرس إلى مأتم، ومن صفقة القرن إلى صفعة القرن. فما حصل في تلك الورشة مهينٌ للعرب، مهينٌ للمسلمين، مهينٌ لكلِّ إنسان شريف، بسبب قيادات عربية عاجزة وخنوعة ومستسلمة؛ “نحن في زمن الأقزام وليس في زمن الكبار، والذي يقرر مصائرنا، هم الأقزام الذين يحرِّكهم آخرون من الخارج”، حسب رأي الكاتب فهمي هويدي لصحيفة رأي اليوم، “فنحن نُباع بثمن بخس. نعترض على البيع أولا، ونعترض على الثمن ثانيًا؛ وهذا شيء لا يحدث إلا في ظل مهانة الأمة العربية”. وهويدي على حق في رأيه؛ هذا هو زمن الأقزام، الدين يديرون شؤون الأمة؛ بعد غياب القيادات القومية، التي لها أخطاؤها بالتأكيد، إلا أنها لم تفرط في القدس ولا في الأساسيات والمسلمات.
ويقى أن نقول: إنّ الرهان هو على الشعب الفلسطيني، الذي سيبقى الورقة الأصعب في المعادلة دائمًا وأبدًا، فلن تنجح المؤامرات ضده مهما كانت قوتُها، طالما هم متفقون وموحدون؛ فتلك المؤامرات ستسقط أمام قوة وصلابة الشعب الفلسطيني، الذي كتب عليه أن يدفع الثمن وحده، في زمن الأقزام. فلا للتنازلات، لأنها لن تعيد الحقوق، ولا للمليارات فإنها لن تحرر وطنًا.