أقل من شهرين على بدء الهدنة، بالكاد التقط أهل غزة أنفاسهم، ولم تكن الحرب قد توقفت تماماً، لكن أخبار غزة تراجعت قليلاً، مباشرة أخذ العالم يتعامل مع العدوان وكأنه حدث في الماضي البعيد، بدأ يتصرف وكأنَّ شيئاً لم يكن، نسي سريعاً كل الأهوال التي مر بها الغزيون، غابت أخبار النزوح والتشريد والجوع.. وسياسياً تكشفت ملامح ما سُمّي «اليوم التالي».
بعد شهرين على الهدوء «الهش»، وبعد أسبوعين على التجويع، بينما الناس يستعدون للسحور، شن الطيران الإسرائيلي، فجر الثلاثاء، غارات جبانة وغادرة على مناطق متفرقة في القطاع أدت إلى استشهاد أكثر من 400 مواطن، وجرح نحو 600 آخرين، أغلبهم مدنيون وأطفال ونساء.
من جهتها، اتهمت «حماس» حكومة الاحتلال بالتراجع عن اتفاقية الهدنة، وحمّلتها مسؤولية التصعيد. فيما خرجت تحليلات عديدة تصف وتحلل الحدث، مفادها أن إسرائيل عادت إلى خيار الحرب لأسبابها الخاصة الداخلية: تمرير الموازنة للحكومة الإسرائيلية، التهرب مِن التظاهرات التي ستخرج ضد عزل رئيس «الشاباك»، الضغط على «حماس» لتسليم الرهائن والتنازل عن الحكم وتسليم السلاح.
كل هذا صحيح ويجب أن يُقال، لكنه على أرض الواقع غير مهم، ولن يفيد أهلنا في غزة بشيء.. مهما شتمنا إسرائيل، ومهما قدمنا دلائل وقرائن على إجرامها.. لن يمنع هذا كله إسرائيل عن تجبرها ولن يوقف عدوانها، ولن يحمي بيتاً لأهلنا في غزة، ولن يطعم جائعاً.
مشكلتنا ليست في صياغة البيانات، ولا في جزالة الألفاظ، ولا في توضيح الحقائق للعالم.. العالم رأى كل شيء بالتفصيل، وتوقف عند ذلك.. اليوم، لم يعد خبر غزة مهماً، ولا خبر فلسطين كلها.. يوم أمس قُتل 400 فلسطيني خلال ساعات، وقبلها قُتل 50 ألف فلسطيني أغلبهم نساء وأطفال ومدنيون.. ماذا فعل العالم لإسرائيل؟ لا شيء.. في الضفة الغربية تم تشريد 40 ألف لاجئ من سكان مخيمات شمال الضفة، وأيضاً مـرَّ الخبر بهدوء ودون ضجيج.
اليوم؛ بعد نحو سنة ونصف السنة على بدء العدوان، نحن أمام واقع جديد في الإقليم، بعد سقوط نظام الأسد، تمكنت إسرائيل من القضاء على مقدرات سورية العسكرية والإستراتيجية، واحتلت أراضي سورية مساحتها أكبر من مساحة قطاع غزة، وحيدت «حزب الله» كما حيدت إيران، وتوغلت في الجنوب اللبناني.. بجملة واحدة أنهت «محور المقاومة».
وبعد كل ما فعلته في قطاع غزة من تدمير وقتل، وبعد تدميرها مخيمات جنين وطولكرم، وإعادة سيطرتها العسكرية المباشرة على الضفة.. باتت إسرائيل ترى نفسها الحاكم المطلق للإقليم، المؤيدة بلا تحفظات من الإدارة الأميركية، وبالتالي صارت تعتقد أن بوسعها فِعل كُل شيء.. حتى لو كان لأغراض التدريب، أو لتجريب أسلحة جديدة، أو للتخلص من الأسلحة المتكدسة في مخازِن الجيش.. في الوقت الذي قصفت فيه غزة، قصفت أيضاً مواقع في سورية ولبنان، كما قصفت أميركا مواقع للحوثيين في اليمن.
أمام هذا الواقع الجديد لا أهمية لسؤال لِماذا استأنفت إسرائيل عدوانها؟ فعدوانها أصلاً لم يتوقف.. وليس مهماً تبيان عدالة ومشروعية مواقف «حماس» في المفاوضات، المسألة الأهم أن نعي هذا الواقع الجديد، وأن نعرف كيف يُمكِننا التعامل معه. وتلك مسؤولية الجميع.. ولكن من المهم تسليط الضوء على مسؤوليات «حماس»، لأن موقفها الأكثر تأثيراً في الساحة في هذه المرحلة بالذات.
أمام «حماس» خيارات عديدة، منها إعادة ترميم قواتها وتجنيد آلاف الشبان، ومع تواجد القوات الإسرائيلية في القطاع ستخوض حرب عصابات بأسلحتها البسيطة، لن تحتاج إلى صواريخ وأنفاق، كل ما تحتاجه إرادة القتال، وجنود مؤمنون بيقين تام أن المواجهة العسكرية هي الخيار الوحيد أمامهم، وأنَّ لا فرصة لهم بالنجاة.. ومثل هكذا مواجهات ستؤلم إسرائيل وستؤدي إلى سقوط خسائر بشرية ومادية في قواتها.. لكنها لن تغير نتيجة الحرب، ولن تمنع إسرائيل من تحقيق أهدافها الحقيقية (التهجير، وقضم الأراضي، وإعادة هندسة القطاع ديموغرافياً وإستراتيجياً). ستخسر «حماس» من مقاتليها وكوادرها، لكن الخاسر الأكبر هم أهل غزة الذين ستنعدم الحياة أمامهم، ولن يجدوا سبيلاً للنجاة إلا بالهجرة.
إذا لم تقرر «حماس» العودة للحرب (عودة القتال مصطلح مضلل تروّجه إسرائيل و»الجزيرة»، والحقيقة هي عودة المقتلة وعمليات الإبادة) ستظل «حماس» متمسكة برهانها على «الرهائن»، واعتقادها أنهم سلاح تفاوضي تستطيع الحركة من خلالهم فرض شروطها.. وفي واقع الأمر لم يعد الرهائن نقطة قوة، بل صاروا ذريعة لإسرائيل لمواصلة عدوانها والبقاء في أجواء الحرب.. و»حماس» تدرك قبل غيرها أنَّ الرهان على الرهائن سينتهي عاجلاً أم آجلاً.
مع قرار استئناف العدوان، وبغطاء أميركي، أعلنت إسرائيل أنها لن تنسحب من القطاع، وأنه لا إعمار في المدى القريب، حتى تبدأ عمليات التهجير «الطوعي» وفق رؤية ترامب التهجيرية، وأنها تشترط الموافقة على من سيحكم أو من سيدير غزة، وأنها ستظل محتفظة بتواجد عسكري وأمني في القطاع، وأنها من يتحكم في إدخال المساعدات، مع رفض وجود السلطة الفلسطينية بأي شكل (لتكريس واقع الانفصال).
إذاً، إما خروج «حماس» من المشهد وتسليم الرهائن.. أو مزيد من الضغط العسكري بالقصف والتدمير والمجازر، واستمرار التشريد والتجويع والحصار.. وكل رهان على موقف دولي أو أميركي، أو على ضغط من أهالي الأسرى، أو من الشارع الإسرائيلي لإسقاط الحكومة، أو رهان على محور المقاومة، وما تبقى منه (الحوثيين)، أو رهان على الشارع العربي، أو الأنظمة العربية.. كلها رهانات فاشلة ومحض هراء.. حتى ما يسمى «الوسطاء»، فأقصى ما يستطيعون فعله التوصل إلى وقف هش ومؤقت لإطلاق النار.
المشكلة أنه لا إسرائيل ولا «حماس» معنية بمعاناة أهل غزة.. بالنسبة لإسرائيل فهذا هدفها (القتل والتهجير).. بالنسبة لـ»حماس» فهي مستعدة للتضحية بالشعب لتحقيق أهدافها (وضمان بقائها)، بعقلية أصحاب الأخدود.. وإذا ظل الوضع على حاله فسيكون هذا هو مستقبل قطاع غزة في المدى المنظور.. حرب إبادة، انعدام شروط الحياة، هجرة وتهجير.
لا أحد يطالب باستسلام «حماس»، ولكن عليها أن تخرج من المشهد كتنظيم عسكري، أن تبقى كتنظيم سياسي، وكأحد مكونات الشعب الفلسطيني. خيار العودة للحرب والإصرار على عسكرة المقاومة مهلكة لـ»حماس» أولاً، وللشعب الفلسطيني ولقضيته عموماً.
عن صحيفة الايام