هناك اليوم ومن دون ادنى شك إحباط أصاب النخب العربية التي حلمت بالحرية في الدول العربية. فالمشروع الديمقراطي أصيب بنكسة عميقة بعد التصلب الاستئثاري الذي بان مع الحكام الجدد في كل من مصر وتونس. كما أصيب بنكسة أعمق نتجت عن انكشاف الوضع السوري على تفتت لم يطل بنية النظام الحاكم كما كان يظن بل بنية المجتمع نفسه. وهو كان قد أصيب بنكسة حاسمة في ليبيا والعراق واليمن حيث قاد الحراك والتدخل الأجنبي الى تشظي الدول والقضاء على وحدة الدولة القائمة.
غني عن البيان أن لبنان كان في طليعة اللائحة التفتتية التي بلغت مداها الأوسع مع عائلة 14 آذار الروحــــية ذات النسب السني التي طلت أهدافها الفعلية بمساحيق الدولة والديمقراطية وبمواجهة نهوض عائلة روحية أخرى، شيعية، ذات أهداف محلية وإقليمية.
أنقسم المراقبون المعنيون إزاء هذا الإحباط الى قسمين. قسم يرى الى الإشكالية بصفتها من ‘طبيعة’ التاريخ والتطور البشري. فيشرح لنا أن المعركة، معركة الحرية، هي معركة طويلة جدا لا تقاس بالسنين بل بالعقود مستنداً بالطبع إلى تجارب الشعوب الأوروبية أو الامريكية التي صارعت أكثر من قرنين قبل أن تستوي على الشكل الديمقراطي الذي نعرفه اليوم. وبناء عليه يرى هذا الفريق أننا في أول الطريق لكنه يؤكد أن الطريق إجباري وليس إختيارياً يمكن تجنبه. وبما أننا نشترك مع كافة وبقية شعوب الأرض في التركيب الإجتماعي والهموم ونختلف فقط بالدرجة، درجة التطور، فإن طريق تطورنا لا يمكن أن يكون مختلفاً عنها، حسب هذه المدرسة.
أما المدرسة الثانية فلم توافق على هذا الإفتراض الإجباري. بل اعتبرت أن الإحباط لا يمكن ان يكون مصدره ‘طبائع’ التاريخ بل هو ترجمة لعدم استعداد شعوب وسكان هذه المنطقة للحرية، ذلك ان هذه الحرية شرطها تبلور هذه الشعوب كشعوب في أوطان. وقبل أن تبت إشكالية الدولة الأمة، من العبث حسب هذه المدرسة، أن يؤدي هذا الصراع ، مهما طال، الى الحرية قبل التشظي. لم يقل لنا أصحاب هذا الطرح كيف يمكن بت هذه المسألة ومتى وبأي قوى بخاصة أن تلك التي تشكل الدولة-غير-الأمة هي بالمناسبة قوى غير راغبة بالدولة-الأمة.
أيا يكن الأمر فإن المدرستين متفقتان على الأقل على توصيف المرحلة الحالية بانها صراع جماعات وطوائف أهلية لا يمكن أن تقود الى الحرية بالوضع الحالي بل في أكثر الحالات تفاؤلاً إلى حروب أهلية وانقسامات عامودية بين عائلات الروح وروح العائلات.
بناء على هذه المحصلة المحبطة كيف يمكن تفسير ما حصل إذاً؟ هل يمكن القول اليوم وبدون ان نجرح شعور أحد أن الحراك الذي تشهده بعض الدول العربية منذ سنتين لا يستهدف الحرية؟ مما لا شك فيه أن تفسير الحراك الشعبي بعنصر واحد هو الحرية والديمقراطية كان من بنات أفكار نخب تدين بدين الفكر المتغربن والتي سرعان ما اصطدمت طموحاتها بالواقع الإجتماعي المعقد لبلادها فخاب ظنها وانتكست أحلامها.
إن المنطقة العربية بتركيباتها الإجتماعية الداخلية المعقدة جداً، التابعة للخارج ومصالحه المتناقضة، والمرهونة لصراعات قوى الخارج المتعددة كما تتبدى في هذه اللحظة بالذات من خلال بروز قوى إقليمية جديدة ذات وزن كبير، كما من خلال قوى عالمية صاعدة تسعى لتأمين مناطق لنفوذها في العالم، بالإضافة الى حيازتها على أكبر تجمع لموارد الطاقة الحيوية الضرورية للجميع، لا يمكن إختصارها وتبسيطها بعامل واحد، الحرية والاستبداد على أهمية هذا العامل. من هنا كان الإحباط.
اللوحة مركبة أغلب الظن وتحتاج الى قراءة أخرى أكثر شمولية وقدرة على ربط مجموع العوامل. والدليل أنه حتى في دولة كمصر أو تونس حيث نجحت ثورة الحرية وحكت صناديق الإقتراع لم يتوقف الصراع ولم يهدأ الحراك بعدُ. بالعكس نشهد حالياً عودة الشباب الى الشارع لمتابعة المعركة. والحال فإن استمرار تعقد الوضع ودخول جانب الصراع الأهلي عليه دفع نخب التفسير المغربن الى الإحباط، ثم اللجوء الى تاريخ الشعوب الأخرى لمحاولة إيجاد أجوبة تقنعهم هم أولاً.
وبعد المساهمة في تفجير الشارع إثر قراءة تبسيطية للوقائع، وبعد اتخاذ الصراع أشكال صراع أهلية وانقسامات مجتمعية حادة، احتار هؤلاء بالأمر فتذكروا ضرورة الدولة-الأمة أولاً ولكن بعد خراب البصرة. ومنهم من يعدنا بحروب المائة عام استنساخاً لحروب ‘قرأها’ في الكتاب وقادت بالنتيجة الى الحرية. غاب عن بال الجميع هنا تحديد القوى الإجتماعية المتصارعة في المجال الداخلي، مصالحها ورهاناتها، وارتباط كل منها بمصالح القوى الخارجية التي تلعب هي أيضا مستقبلها في بلادنا.
لقد صار من شبه المؤكد أن الأنتفاضات العربية تتشكل من مجموعة متفاوتة من القوى الإجتماعية الداخلية ذات المصالح والنوايا المختلفة. منها التقليدي الأهلي، العائلي والعشائري والطائفي، ومنها الطبقي، العاملين بلا أمل في جميع القطاعات المدمرة، ومنها المهمش، الشباب الكثير العدد بسبب الطفرة السكانية التي تفجرت منذ اربعة عقود، الشباب المنبوذ من قطاعات العمل ومن السكن والطبابة وجميع أسباب العيش، والمنبوذ من الجماعات القرابية التي لا تستطيع تبنيه بسبب عدده الهائل. لكل فئة أهدافها ومصالحها المختلفة.
القوى التقليدية تسعى الى قلب الغلبة والثأر من القوى التي أخضعتها في السابق مستندة الى تحالفات إقليمية ودولية. التغيير هنا هو تغيير الطرابيش. وهناك الشباب المهمش الصعلوك يتدبر طريقه ووعيه حالياً من أجل الدخول في المجتمع. التغيير هنا جذري بالضرورة. المعركة الداخلية معركة هذه القوى الإجتماعية بالذات ومصير بلادنا متوقف على نتائج صراعاتها ووعيها لمصالحها ولتحالفاتها الإقليمية والدولية.
القدس العربي .