الدولار هو “العملة الدولية الأولى”، و”العملة التي بها وحدها يُسَعَّر النفط (وغيره من السلع الاستراتيجية)”.
لقد تربَّع الدولار على عرش العملات الدولية، وأحكم قبضته على احتياطات العالَم النقدية، وأَلْزَم مُنْتجي سلعٍ عديدة استراتيجية على تسعيرها به؛ وما كان له أنْ يسير في هذا المسار الصاعِد من غير أنْ يهيئ، في الوقت نفسه، أسباب وعوامل وظروف تراجعه، وسيره في مسارٍ هابط.
بعد أنْ وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، كانت الغالبية العظمى من دول العالَم يمكنها شراء كل ما تحتاج إليه (تقريبًا) من الولايات المتحدة، التي كانت ملتزمة، في الوقت نفسه، أنْ تُبدِّل بالذهب عملتها الورقية؛ فكل دولة كان يُمْكِنها أنْ تَحْصَل من الولايات المتحدة على الذَّهب عند إعادتها “الورقة الخضراء” إليها. ومع تراجع الحصَّة العالمية للولايات المتحدة من الصادرات الصناعية، وإعلانها التوقُّف عن تبديل الدولار بالذهب، انتفت (أو تضاءلت كثيرًا) الحاجة لدى دول العالَم إلى الدولار، في التجارة الدولية، وفي الدَّفْع والاختزان؛ فتفتَّق ذهن القوَّة العظمى في العالَم عن حيلة “البترودولار”؛ فالنفط هو سلعة عالمية استراتيجية، كل دول العالَم في حاجة إلى هذه السلعة؛ والسعودية، سنة 1973، كانت أكبر دولة مُصَدِّرة للنفط في العالَم، فاتَّفَقَت معها الولايات المتحدة على أنْ تُسَعِّر نفطها بالدولار فحسب؛ فتولَّدت لدى كثير من دول العالَم حاجة جديدة إلى اقتناء الدولار؛ ولقد كان بيع النفط، عالميًّا، بالدولار امتيازًا للولايات المتحدة، التي كانت دولة مستوردة للنفط (وتطبع الدولار في حرية تامة). التزمت الولايات المتحدة، في اتفاقية “بريتون وودز” سعرًا ثابتًا للدولار بالنسبة إلى الذهب (35 دولارًا للأوقية الواحدة من الذهب). وحظرت الاتفاقية على الولايات المتحدة أن تطبع من “الورقة الخضراء” أكثر مِمَّا عندها من ذهب. كذلك التزمت كل دولة سعرًا ثابتًا لعملتها بالنسبة إلى الدولار.
والآن، تملك الولايات المتحدة (في فورت نوكس، وفي البنك المركزي في نيويورك) معظم الذهب في العالم، فمن خلال مساعدتها لأوروبا لإعادة بناء اقتصادها الذي دمَّرته الحرب العالمية الثانية، سَحَبَت الولايات المتحدة من القارة قسمًا كبيرًا من مخزونها من الذهب، معطيةً الأوروبيين في مقابله عملتها الورقية التي كانت خاضعة لأحكام اتفاقية “بريتون وودز”.
وسنة 1971، حرَّرت الولايات المتحدة الدولار من قيده الذهبي، فأعلن الرئيس نيكسون أنَّ بلاده لن تدفع بالذهب من الآن وصاعدًا. وقال: “من قبل كان يأتينا شخص حاملًا 35 دولارًا، فنعطيه بدلًا منها أوقية من الذهب. كنا ملتزمين هذا؛ أمَّا الآن فلا”!
وهكذا تضاعفت الكمية المطبوعة من الدولار بين سنتي 1971 و2000 إلى أكثر من 2000 في المئة، فالطبع (الرخيص) ما عاد مشروطًا بغطاء ذهبي. ولقد صدق ديجول، وأصاب كبد الحقيقة، إذ وصف طبع الولايات المتحدة للدولار من دون غطاء ذهبي في خلال حرب فيتنام بأنَّه “سرقة مكشوفة وكبيرة”.
لَمَّا انهار النِّظام النَّقدي العالمي الذي أسَّست له اتفاقية “بريتون وودز”، واستبدَّ بالولايات المتحدة الخوف من عواقب تخلِّيها عن “استبدال الذَّهب بالدولار”، ذَهَب وزير خارجيتها هنري كيسنجر إلى السعودية، ليَعْقِد معها “اتفاقية”، تلتزم فيها القوَّة العظمى في العالَم حماية حقول النفط في مقابل التزام السعودية تسعير مبيعاتها النفطية بالدولار، وبه فحسب؛ وهذا عَنَى أنْ تَرْفُض السعودية بيع نفطها بغير “الورقة الخضراء”.
وهكذا خَرَج نظام “البترودولار” إلى الوجود، وحلَّ “الذَّهَب الأسود” محل “المعدن الأصفر”؛ فدخلت السعودية التاريخ بصفة كونها الدولة التي أنقذت الدولار، بصفة كونه “عملة العالَم”، من هلاكه المحتوم؛ ومع حلول سنة 1975، وافقت كل الدول الأعضاء في “أوبك” على تسعير مواردها النفطية كافة بالدولار حصرًا؛ وكأنَّ كيسنجر أراد أنْ يقول للعالَم أجمع، بدءًا من عقده الاتفاقية مع السعودية: لا حياة بلا نفط، ولا نفط بلا دولار.
إنَّ على كل دولة، إذا ما أرادت أنْ تبقى على قيد الحياة في عالَمٍ يقوم اقتصاده على الطاقة النفطية، أنْ تَحْصَل على النفط؛ لكنَّها لن تَحْصَل عليه إذا لم تَحْصَل على “الورقة الخضراء”؛ فَمِنْ أين تأتي بهذه الورقة، التي عَرَفَت الولايات المتحدة كيف تَجْعَل للعالَم مصلحة في اقتنائها واختزانها؟
دول كثيرة لا تَملك إلا ما يشبه “جسدها”، فتبيعه للولايات المتحدة، أو لغيرها من القوى الغربية، من أجل الحصول على الدولار؛ وهكذا تبيع هذه الدول (للولايات المتحدة في المقام الأوَّل) كثيرًا من سيادتها واستقلالها، ومن حقوق ومصالح وقضايا شعوبها، من أجل الحصول على الدولار.
ومع كل اشتداد في الطَّلَب العالمي على النفط، يشتد الطَّلَب العالمي على “الورقة الخضراء”، فيغدو الحصول عليها غاية كل اقتصاد، وغاية صادرات الدول على وجه الخصوص؛ فالصادرات التي تأتي بـ”الورقة الخضراء” هي التي تَعْلو، ولا يُعْلى عليها.
الولايات المتحدة هي دولة نسيج وحدها؛ فهي “يحقُّ لها” أنْ تشتري بـ”وَرَقٍ”، لا تُكلِّفها طباعة الورقة الواحدة منه أكثر من 5 سنتات، كل ما تريد شراؤه من نفط، ومن سِلَعٍ أخرى، ومن نفوذ سياسي، وغير سياسي!
“البترودولار” لا “البترول نفسه”، هو ما يستأثر الآن بالاهتمام الاستراتيجي للقوَّة العظمى في العالَم؛ وكلُّ مَنْ يتمرَّد على نظام “البترودولار”، مقرِّرًا بيع نفطه بغير الدولار (بالذَّهَب أو باليورو الأوروبي أو بالين الياباني أو باليوان الصيني) أو بالمقايضة، يَلْقى أشدَّ عقاب؛ وهذا ما أسماه وليم كلارك “حرب البترودولار”.
الايام
وما زالت أميركا تستميت في الدفاع عن «البترودولار»! …بقلم :جواد البشيتي

Leave a comment