الايام- بديعة زيدان:هرب “عايد الشيخ ضهد”، وهو الابن الوحيد لأكبر ملّاك الأراضي في قريته “تل الإمجعبزة”، قبل بداية موسم الامتحانات في سنته الجامعية الأخيرة، حيث كان يدرس الحقوق، تاركاً أصدقاء أصيبوا إصابات بالغة، بعد سقوطهم تحت هراوات رجال الأمن.
كان شاهداً على أشياء كان يراها عجيبة، حيث يمزق جنود بلاده قميص طالبة، بينما كانت تركض هاربة من أمامهم، فيما تتساقط أجسادٌ على الأرض لتداس ببساطيرهم الثقيلة، وقبل ذلك كله، الرصاص الذي انهمر من أعلى المكتب الحكومي الرئيس، وكأن ما يجري ساحة حرب.
كان يمكن أن ينسى “عايد” أشياءً كثيرة، ولكنه لم ولن ينسى منظر ذلك الطالب الذي أغمي عليه بسبب ضربات عصا غليظة كان يهوي بها رجل أمن مقنّع.. “لقد أنجزت المهمة فاتركه رجاءً.. اذهب لتضرب طالباً آخر”، كان يقول مع نفسه، وهو يرى من بعيد رجل الأمن يستمر بضرب الطالب المغمى عليه لوقت طويل رغم إغمائه، حتى صار على يقين أن رجل الأمن هذا لا يريد سوى قتل الطالب.
إنها انتفاضة “الشهر الثالث عشر” أو متكأ الحكاية المحورية للرواية التي تحمل الاسم ذاته، للروائي العراقي أحمد سعداوي، والصادرة عن منشورات “نابو” في بغداد.
والانتفاضة الافتراضية تحمل فيما وراء حكاياتها، وقصص “عايد” ورفاقه والمحيطين به، محاكاة وربّما تفكيكاً للواقع العراقي المُعاش، وخاصة ما حصل قبل سنوات قلائل، وعرف بانتفاضة “تشرين”، أو تنبؤاً بما ولما هو قادم في البلاد التي مزقتها الحرب تلو الأخرى، والمعارك الضارية، والأقل أو الأكثر ضراوة، انطلاقاً من ناحية ما، اخترع لها اسماً غرائبياً كما هو واقع بلاده، في زمن يوحي بأنه في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، بينما تزجنا سردية سعداوي هذه في أزمان متعددة أخرى، وكأنه عرض لمآسٍ لا تنتهي في بلاد اعتادت على كل ما هو كارثي في زمنها الحديث، وفي أزمان موغلة في القدم أيضاً.
“إنه الشهر المضاف إلى أشهر السنة الاثني عشر، ليس شهراً يمكن قياسه موضوعياً، بل بالشعور النفسي، وهو لا ينتهي باليوم الثلاثين.. يمكن أن يستمر الشهر الثالث عشر إلى عشرات الأيام”.. كان “الأستاذ خليل”، أستاذ “عايد” ورفاقه “شاكر” و”نسرين” وغيرهم في كلية القانون بجامعة بغداد، يرى أن “كل شيء يولد مع ولادة الاسم، سيغدو هذا الاسم بحدّ ذاته سبباً لقلق السلطة الفاجرة”، ومن هنا جاءت تسمية “الشهر الثالث عشر”.
اختفى “شاكر”.. هناك من قال، إنه هرب عبر الحدود إلى سورية، وهناك من قال، إنه تمت تصفيته، ومن ثم دفنه في مكان مجهول، وما حكاية الهرب إلا للتغطية على جريمة التصفية هذه لمن سبق وتعرّض للاعتقال مرّتين، وقت الامتحانات، وتم تعذيبه بقلع أظافره وصعقه بالكهرباء!
يعود “عايد” إلى القرية، وتحديداً إلى منزل والده أو “بيت الميزر”، فليفت انتباهه هدهد يتطاير بين النخيل، بما يحمله الهدهد من دلالات ميثولوجية وأسطورية ودينية وغيرها، فهو رمز البصيرة وطائر الأسرار، وحمّال المهام الصعبة، لدى شعوب، ولدى شعوب أخرى خارج بلاد الرافدين والمنطقة العربية هو رمز للسعادة والثراء وحسن الصيت.
كان “الهدهد” دائم الاقتراب من بناية “البدّالة القديمة”، يدور حول جدرانها المغطاة بتعرّشات اللبلاب وطبعات بأيدي نساء وأطفال بحنّاء عتيق، قبل أن يقف عند مزراب الماء المعدني أعلى النافذة الوحيدة في البناية ليستريح، أو لعله يستريح، في استعارة تبدو لروح شهيد من شهداء انتفاضة “الشهر الثالث عشر المُفترضة”، لعله الطالب الذي كان مغمى عليه، لجهة كون غرفة “البدّالة” مكان “الفضفضة” الأبرز لأهل القرية، وانعكس من بين حكايات عدة، في سردية “أوحيدة” صانعة المكانس حين طلب من القائم على “البدّالة (أبو صلاح)، الكشف عن المصير المجهول لزوجها العسكري.
يخبر “أبو صلاح”، بعد حين، “عايد” أنه كان يستمع لكل المكالمات، وفي وقت لاحق يكتشف خريّج الحقوق أنه كان من يُجري معهم المكالمات من الطرف الآخر أصلاً، بتقليد أصواتهم، وكأنه “السلطة الشبح”، أو “ظل السلطة”، في لعبة سردية تتكئ على الإيهام الذي يتملك قارئها، فكل ما في البلاد، بمن فيهم العباد، محض سراب، أو خيالات، أو خرافة، كما البلاد كلها، بسلطتها ومعارضتها، ورموز دكتاتوريتها، أو ثوريّتها، أو خونتها أو وطنيّيها، أو كأنّ الحقيقة الوحيدة على افتراضيّتها، هي “الثورة”.
حطّ الهدهد حيث اعتاد أو أسرته “الفضفضة”، ولقناعة ربّما تملكت “عايد”، وورثها عن جدته “وطفة” بأن روح الإنسان غير المرتاحة تطفو من جسده لحظة الموت، وتتحول إلى طائر، كل همّ روحه أن يطوف في الأمكنة التي اعتادها إنساناً، وأن يري نفسه للآخرين.
وما بعد العودة، والملاحقات الأمنية بحق “المخرّبين” كما تطلق عليهم الحكومة، بدأت بعض الاختلافات تطفو على السطح بين “عايد” ووالده، الذي لم يكن يعارضه في آرائه السياسية، بقدر ما يخشى على مصالحه الاقتصادية، فهو هنا يعبّر عن صورة الرأسمالي الانتهازي بالعادة، والذي لا يهمه سوى مصالحه، مع أنه يسارر ابنه، ذات مرّة قائلاً: الناس تصدّق بما تقوله الحكومة يا ابني.. أصدقاؤك لا تخرج أصواتهم على الإذاعة، وليست لديهم جريدة يتكلمون بها مع الناس، وحتى لو كانت لديهم جريدة، فإن شركة التوزيع لن توزّعها أصلاً، ولن تصل إلى ثلاثة أرباع البلاد، في حين يحضر “الشيخ الرميضي” تجسيداً للعلاقة ما بين الدين والسلطة، أو امتطاء الأخيرة سطوة الأولى، في حين أن الجندي “علي دفش”، فيمثل السلطة الواقعية بصغرها وتفاهتها وشحوبها.
وبعد حين، تعود ثورة “الشهر الثالث عشر”، أو “عودة المخرّبين” كما يعلن الراديو الرسمي، في فصل “مرافعة الإنسان العادي” بالرواية المدعومة باسكتشات مرسومة على ما يبدو أنها لسعداوي أيضاً، ولا تخلو من دلالات تمنح القارئ مساحات أرحب للتأويل.
هذه المرة يبرز المطلب الأساسي لـ”الشهر الثالث عشر” كثورة، أو انتفاضة، أو حركة، أو تجمع، تبعاً لمطلق الوصف عليها، متمثلاً بانتخابات مُباشرة بصندوق وكابينة اقتراع سريّين، وأن تنتهي مجالس البيعة إلى الأبد، وأن تتوقف الأحزاب المعارضة والتي في السلطة عن الادعاء بكونها أحزاباً، وما هي إلا تجمعات لرجال أعمال، وتجّار مُقرّبين من النوّاب المُختارين، أو من أفراد الحكومة والمتنفّذين في السلطة، ومهمتهم الأساسية خلق جو سياسي يُسهّل اقتسام منافع البلد وموارده، كما برز مطلب حلّ الجماعات المسلحة “الأربع” المرتبطة بالحكومة والمعارضة، وأن تكون السلطة الأمنية شرعية ومحكومة بالقانون، وهي مطالب وصفها “الشيخ ضهد” والد “عايد” بالخيالية!
لكن الهدهد ظل يحوم حول مركز الناحية بارتفاع واطئ، رغم استسلام “الشيخ ضهد” بعد خسارة مراهناته مع أصدقائه النافذين في الدولة، بينما كان يشاهد شرطيّين يجرجران ابنه “عايد”، ثم يدسّانه في المقاعد الخلفية في سيارة الشرطة المتربة القذرة، بعد أن قرّر اقتحام “البدّالة” في حين قرر الأب مطاردة سيارة الشرطة، بينما قرر العامّة في القرية مواجهة “أبو صلاح” الذي تُرك يدير معركته بنفسه، هو الذي لم يكن إلا “أذناً كبيرة تعتاش على السماع”.. وبقي الهدهد يحوم في محيط مركز الشرطة، إيحاءً باستمرارية “الثورة”، بل وديمومتها، في مواجهة أي فعل سلطوي كان، في أي زمان وأي مكان، ومهما تبدّلت الوجوه، والأقنعة، والمسّميات، والأسامي.