غزة كعادتها وكما جيناتها الوراثية حادة في طباعها وحدية في خياراتها، تندلق حتى النهاية في السلام وتندلق حد الملحمة في الحرب وكأنها لا تعرف الحلول الوسط وحين تذهب حتى النهاية في السلم والحرب تجبر الجميع أن يدفع ثمن خيارها.
هذه المرة ذهبت في الحرب نحو كسر العظم وكسر قدم غزاة تكسرت إرادتهم على بواباتها الشرقية، قررت أن تخوض معركتها وتسجل نقاطاً لصالحها في معركة الإرادة مهما كلف الثمن، وقد كان الثمن هذه المرة مكلفاً حين كانت تواجه عدواً أصبح القتل والدمار جزءا من هويته التي صبغت تاريخه القصير منذ أن تأسست هذه الدولة على الطرد وهدم البيوت.
ولا زال التاريخ يعيد نفسه ولكن بشكل أكثر قسوة، هذه المرة كان جنون إسرائيل أكبر من الحروب السابقة، تجمعات سكنية ألغيت عن الخرائط وبيوت لم يعد أصحابها يعرفون أين شيدوها، دمار في البنى التحتية طال كل شيء حين كانت الطائرات من السماء والجرافات على الأرض تحرث كل شيء في الأرض، لنصحو على دمار هائل واضح أن إسرائيل كانت تعرف ما الذي تريده.
بعد هذا الهجوم عليها، غزة بحاجة إلى إزالة آثار العدوان الذي ترك ذكرى في كل حي وفي كل شارع، غزة لم تخرج من الحرب مهزومة ولكنها خرجت مدمرة، هذا الدمار الكبير الذي لا تستطيع غزة فقيرة الإمكانيات أن تواجه وحدها ما تعجز عنه دول، غزة بحاجة إلى إعادة بناء وإعادة ترميم وهي مهمة شاقة تستدعي استنفار كل النظام السياسي الفلسطيني وبكل ما يملكه من إمكانيات علها تعود وتقف على قدميها من جديد، صحيح أن غزة اختارت خيارها وحدها ولكن في الحروب لا أحد يعرف أين ستنتهي الطلقة الأولى والصاروخ الأول، وفي حروب الإرادة لا أحد يسأل ما الذي حدث وكيف حدث، تغيب كل الأسئلة وتحل محلها ضرورات الصلابة والتحدي وعدم الانكسار.
غزة خرجت من العدوان محطمة كما قدرها أن تكون شاخص رماية للجميع وأبرزهم إسرائيل التي تقوم بتدريب جيشها وطياريها وتجرب ما أنتجته مصانعها من الأسلحة على جسدها وأهلها وبيوتها، إنها بحاجة إلى كل شيء، بحاجة إلى أن تكون عملية إعادة إعمارها أولوية السلطة الوطنية وأن تكون ميدان عمل حكومة الوفاق الوطني، هذا يتطلب أولاً نقل مقر الحكومة ووزرائها إلى غزة للوقوف عن قرب على مهمتهم الأولى لعمل ميداني متواصل يربط الليل بالنهار، أن يشمر الوزراء عن سواعدهم بين ركام المنازل على مدار الساعة، أن يعملوا كخلية نحل لا تتوقف عن الطنين لأن المهمة الكبيرة لا يصلح إدارتها عن بعد، فالدمار كبير والمهمة ثقيلة.
ما حدث لغزة نكأ الجرح العميق متوجاً سنوات من البؤس والحصار كانت خلالها تموت ببطء شديد وكانت قد هبطت عن خط الفقر الإنساني لتأتي هذه الضربة أكبر من أن تحتملها أية مدينة عادية، لقد خرجت منكوبة وقد أعلن الرئيس في مرسوم رئاسي أن غزة منطقة منكوبة للاستغاثة بالعالم، فإمكانيات السلطة وحدها لا تتمكن من إزالة هذا الدمار وإعادة البناء، إذ يجري الحديث عن تكلفة ما دمره العدوان بالمليارات، وهذا يفوق طاقتها كثيراَ، هذا على الصعيد الخارجي ولكن الإعلان عنها كمنطقة منكوبة يستدعي أيضاً إجراءات داخلية للتخفيف عن سكانها ودعمهم والأخذ بيدهم، وتتمثل تلك الإجراءات بإعفاء السكان من دفع الضرائب لفترة محددة ووقف الضرائب عن المواد الأساسية كالوقود والمحروقات والدقيق والغاز والمواد الغذائية الأساسية ووقف الجباية والتوقف عن دفع الكهرباء والاتصالات.
فقد خرج سكان قطاع غزة من العدوان يدفعون فواتير الخدمات خشية أن تنقطع عنهم وهذا غير مفهوم، ولا زالوا يدفعون الضرائب ويشترون الوقود بالسعر المباع في إسرائيل، فكيف لمن دمر بيته أو من أصبح لاجئاً وفقد كل شيء أن تطلب الدولة أو السلطة أو النظام – سموا الحكم كما شئتم- حقوقها وواجباته وكأن شيئاً لم يحدث، هذا لا يجوز. إعفاء غزة عن دفع الضرائب ضرورة قانونية وإنسانية وأخلاقية يجب أن ترافق الإعلان عنها كمنطقة منكوبة إلى أن يصدر مرسوم جديد ينهي تلك الحالة، هذا إجراء مؤقت ومطلوب، فالناس هنا فقدت كل شيء، فما تم تدميره من مبان بالرغم من هول المشهد يتواضع أمام خسارة البشر، حين نعرف أن نسبة الشهداء والجرحى من سكان القطاع تبلغ 6% وأن 40% من الجرحى العشرة آلاف جريح تعرضوا لعمليات بتر في أطرافهم، هذا يعني أننا أمام أربعة آلاف معاق جديد.
إن نقل مركز ثقل حكومة الوفاق إلى غزة وإعلان حالة الطوارئ ودق جرس العمل هو إعلان لنهاية سنوات سوداء عاشها الشعب الفلسطيني وهي سنوات الظلام والانقسام، والإعلان عن أن تلك المرحلة باتت من الماضي وأن غزة عادت إلى مكانها الطبيعي كجزء من الوطن، وأن مشروع إسرائيل لفصلها ودفعها جنوباً قد فشل، وهذا من أهم الإنجازات التي تحققت في هذه الحرب، لقد عادت وحدة الوطن التي غابت لسنوات وانشغل خلالها الفلسطينيون في الصراع ضد أنفسهم.
ولكن على غزة أن تهدأ قليلاً وتعيد التفكير بكل الأشياء، فما حققته في معركة الإرادة كان مدهشاً، هؤلاء الأبطال تفانوا في الميدان وقد صمدت غزة حتى النهاية، وقال المقاتل كلمته في أرض المعركة ولكن لكل معركة نهايتها السياسية عندما يتوقف هدير المدافع، فما الحرب إلا استمرار للسياسة كما قال المفكر البروسي العسكري الأشهر (كلاوتزفيتز).
وقد كانت النتيجة السياسية في هذه المعركة إعادة التفاوض على ما كان قد تحقق في أوسلو وكأن إسرائيل تعيدنا إلى المربع الأول أو نحن نعود إلى المربع الأول دون أن ندري، أن يذهب وفد فلسطيني ممثل لكل القوى الفلسطينية يفاوض إسرائيل على ما كان قد تحقق سابقاً ..على إدارة معابر ومطار كانت قد أقلعت منه طائراتنا ومدى الصيد وتفاصيل السلع التي تدخل فإن في ذلك ما يستدعي التوقف أمامه من قبل الجميع، وهذا يعكس أزمة حقيقية في إدارة برنامج التحرير لدى كل القوى السياسية.
وإذا كان هناك مفاوضات مع إسرائيل وارتضينا ذلك، فالأجدر أن تناقش إنهاء الاحتلال والقدس واللاجئين لا على قضايا إنسانية تعمدت إسرائيل إعادة تجريدنا منها حتى نبقى ندور في نفس المكان، ليس مهماً كيف حدث ذلك فالجميع يعرف، لكن المهم أن نعرف ماذا نريد وكيف لا نظل ندور في نفس الدائرة دون الخروج منها مثل قصة اليهودي الشهيرة الذي يعاني من أزمة السكن والاختناق فيطلب منه الحاخام أن يدخل البقرة والماعز اللتين يملكهما إلى غرفته الوحيدة مع زوجته وابنته، وبعد فترة يطلب منه إخراجهما ليشعر اليهودي بارتياح وبأن الحياة جميلة والمكان متسع، إسرائيل دولة ماكرة مدججة بمراكز دراسات تصنع القرار، وفدها يغادر بثلاثين مستشاراً متخصصين بكل الأشياء التي تناقش ونحن بلا تخصص، يعرفون ما الذي يريدونه مسبقاً ونحن نفاجأ بالأشياء على الطاولة، علينا التوقف مع ذواتنا، إنها المهمة العاجلة الآن كي نلاعب الإسرائيلي لعبة السياسة باحتراف ونهزمه، إننا نستطيع، هكذا قال الميدان ولكن ليس بالميدان وحده نشد الخناق حول الاحتلال.