أسرَّ لي أحدُ المتنورين الفلسطينيين، ممن عاشوا في عصر التنوير الفلسطيني (البائد)، عصر التنوير في سبعينيات، وثمانينيات القرن الماضي، ممن كانوا ينتمون إلى أحزاب اليسار، التي كانت تقلد اليسار العالمي بروتوكولياً، لا عقائدياً، قال بصوتٍ خفيض، منتقداً إحدى الشخصيات:
«كان يعمل بائعاً، يبيع الليمون، والفجل، أما والدته، فهي داية لتوليد الأطفال، أما أبوه، فهو بنَّاء يعود إلى البيت وهو يحمل في ثيابه كل غبار الإسمنت! أعرفه، فهو جاري، كان يأكل قمامة الأسواق، ولا يذوقُ اللحم إلا في الأعياد، يعيش في بيت كزريبة الحيوانات، فهو جارٌ لنا، كنَّا نتصدَّق على أطفاله بوجبات طعام.
نقلَ أسرَتَه اليوم لتعيش في فيلا فاخرة، أما ابنُهُ، فقد اشترى بستاناً زراعياً يستعمله منتجعاً صيفياً له ولعائلته وزائريه!!» انتهت التهمة
استوقفته عن مواصلة الحديث وقلتُ:
ما العيبُ في ذلك؟ ألم يصعد بجهده وعمله؟ ثم، ما العيبُ في عمله، وعمل والده، ووالدته؟
أليس ذلك فخراً له لأنه انتقل من الكدح إلى الثراء، ومِن العناءِ إلى السراء، وتلك ميزةُ العاملين المخلصين، ممن أثمرتْ جهودهم، فنقلوا أنفسهم من خانة الفقر إلى الغِنَى؟
أليس وصفُك له بهذه الطريقة عيباً فيكَ أنتَ؟!! ألم تكن من ذوي الياقات الزرقاء، رمزا للعاملين الكادحين، وكنتَ تدعو لتقديس المهن العملية الصغيرة، وتطالبُ بالمساواة وإنصاف العاملين، وتعتبر المهنَ الصغيرة عملا مُقدَّسا؟
ألستَ من محبي الرئيس الراحل، جمال عبد الناصر، الذي تتغنى به في كل جلسةٍ من جلساتك، ألم يكن والده ساعيَ بريدٍ، عاملا بسيطا؟ كذا الحالُ بالنسبة للرئيس الذي لا تُحبه، أنور السادات، فقد كان والده ممرضاً بسيطاً.
أما عن عمل الأم، فأستاذ الفلاسفة، سقراط في القرن الخامس قبل الميلاد، كانتْ أُمُهُ (دايةً) فاعتزَّ بعملها، وقال: «أنا أولِّدُ الأفكارَ، كما تولِّد والدتي المواليد الجُدد» أليستْ مهنتُها شريفةً؟
هذا اليساريُ ليس ظاهرةً فردية في فلسطين، ولكنه جزءٌ من ظاهرة كبيرة، تُشيرُ إلى تخلي كثيرٍ من اليساريين الفلسطينيين عن دورهم التنويري، لا لخوفهم من محيطهم فقط، بل لنقصٍ حادٍّ في ثقافتهم التنويرية، وسعيهم إلى تعويض ما فاتَهم من غنائم، فهم قد ارتدوا زيَّ الثقافة التنويرية قشرياً، بدون أن يؤمنوا بها ويُعزِّزوها كمبادئ رئيسة في العقيدة والممارسة.
أما عن اليساري الثاني، صاحبُ النظريات النهضوية، المسؤول الكبير في حزبٍ يساري مشهور، فحينَ عاد إلى الوطن، خلع رداء التنوير، وكفَّ عن الاستشهادِ بآراء الفلاسفة والمفكرين، فاستبدل أقوالهم، بقصص الكتب الصفراء المنسوبة للدين، وأصبح خطيباً، وواعظاً، يستشهد بأساطير الأولين، و(خراريف) المجالس، وآمنَ بالأشباح، والأرواح، وأعلن براءته من ثقافة التنوير، لا لقناعته بما يقول، بل لأنه أراد أن يُحقِّق ما عجزَ عن تحقيقه بالفكر والتنوير، أراد الحصول على الثروة فلبس رداء المختار، وشيخ القبيلة، وجيَّشَ قبيلته لتخدمَ منافعَه، وأصبح شيخا، ومختارا، ورئيسا لعائلته، يفاخر في جلساته بعدد أفراد مجلسه اليومي من العشيرة، ولم يعد يشعرُ بالخجل وهو يسردُ أمام جلسائه، ممن كانوا يسمعون نظرياته التنويرية في الزمن الغابر، يقُصُّ اليومَ بفخرٍ واعتزازٍ بطولاته القبلية، وغزواته العائلية؛ وكيف أنه يأخذ حقوقَه بسطوة العائلة، ويحتقر الآخرين ممن لا يملكون هذه الحُظوة!!
أخيراً، إن الأمم المُصابة بالقحط الفكري والتنويري، تَعيشْ دائما بين الحُفر، مع الاعتذار لأبي القاسم الشابي الذي قال: ومن لا يحبُّ صعودَ الجبالِ…. يعشْ أبدَ الدَّهرِ بين الحفر
وقال في بيتٍ آخر: فلا الأفقُ يحضنُ ميْتَ الطيورِ…. ولا النحلُ يلثُمُ مَيْتَ الزَّهَر!
الايام