في لحظة تاريخية تقف فيها القضية الفلسطينية على مفترق طرق حقيقي، يبرز الجوهر الأصيل لكل فصيل من الفصائل الفلسطينية التي لا زالت تتمسك بالقضية قولاً وفعلاً، دون أن تؤثر تطورات اللحظة على بصيرتها الاستراتيجية، وصولاً إلى إقامة الدولة الفلسطينية العتيدة.
ففيما تغطي المشهد الدماء التي تسيل جراء مجازر الاحتلال الإسرائيلي ضد أهلنا في غزة، يؤكد الأمين العام للجبهة الدكتور أحمد مجدلاني أن المجرم في هذه الحرب ليس “إسرائيل” وحدها، بل إن الإدارة الأمريكية التي تقدِّم الدعم الكامل للاحتلال “شريكة في قتل الأطفال والنساء والشيوخ بأسلحة أمريكية”.
ومن منطلق خطة العمل الشاملة التي تتعالى على الجراح، يؤكد د. مجدلاني على أهمية الاستجابة الإنسانية السريعة لمتطلبات القطاع المحاصر منذ أكثر من ستة عشر عاماً، تزامناً مع وقف حرب الإبادة المستمرة على القطاع منذ تسعة أشهر، الجهود الدولية في هذا المجال مشكورة بالنسبة للجبهة بالتأكيد، لكنها غير كافية باعتبار أن الأوضاع في القطاع لم تكن المثلى ما قبل السابع من أكتوبر الماضي.
دعم الشعب الفلسطيني في غزة يأتي أولاً في منطق الجبهة اللحظي، فـ “شعبنا الفلسطيني بصموده الأسطوري اليوم وتصديه للهجوم الفاشي للاحتلال على غزة وعلى كل أراضي فلسطين، إنما يمثل خط الدفاع الأول عن شرف وكرامة الأمة العربية والإسلامية، وهو بصموده يوجه صفعة لكل من يراهن على انهيار الشعب الفلسطيني”، أما إنقاذ القطاع مما يُخطط له إسرائيلياً وأمريكياً فهو هدف استراتيجي.
إعادة توحيد القطاع والضفة تحت راية الدولة الفلسطينية العتيدة خيار أساسيٌّ، وفصائل منظمة التحرير الفلسطينية، بما فيها جبهة النضال الشعبي الفلسطيني، مستعدَّة له كما كانت دائماً، من منطلق أن لا إحقاق للحقوق دون توحيد الصف تحت راية فلسطين.
في النظرة الاستراتيجية أيضاً، تخوُّف دائم من محاولات استهداف منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، فإضعاف السلطة الفلسطينية مخطط إسرائيلي قديم جديد، يهدف إلى إفراغ الساحة من طرف فلسطيني يُمكن أن يُعوَّل عليه في إقامة الدولة الفلسطينية التي كفلتها الشرائع والقرارات الدولية.
في هذه النقطة تحديداً وقفت الجبهة بالمرصاد لمحاولات القضاء على منظمة التحرير، “هذه الهجمة لا تصب إلا في مصلحة الكيان الصهيوني وخططه”.
واستهداف “الإنجاز الأهم في حركة النضال الوطني الفلسطيني” وهي منظمة التحرير، يأتي بأساليب عديدة ولكن مكشوفة: استهداف غزة بالقتل والتهجير يدخل في هذا المخطط، كذلك استمرار اقتحام الضفة يومياً، والاعتداء على أهلها، والحرب الاقتصادية التي تُشن على كل فلسطيني في الضفة وغزة وبلاد اللجوء. لكن الجبهة وبقية فصائل المنظمة تتوعد دائماً بصدِّ “كل المؤامرات و المكائد التي تحاك ضدها”، فالشعب الذي كان متمسكاً بأرضه، سيبقى كذلك، وعليه كل الاعتماد في إفشال مخططات الأعداء.
وللشعب الفلسطيني في فهم “جبهة النضال الشعبي” منذ أن عبرت فيه عن فهمها للصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، دور كبير، فالجماهير قادرة على تحقيق الانتصار من خلال “حرب الشعب طويلة الأمد”. هكذا كان للمقاومة المسلحة نصيب هام في تاريخ الجبهة، منذ الإعلان عن أولى عملياتها في 24/12/1967، مروراً بالمشاركة بشكل فاعل في المقاومة بعد خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، جنباً إلى جنب مع المقاومة الوطنية اللبنانية، وقدمت الشهداء والجرحى على طريق تحرير فلسطين، دون أن تنغمس في أي مواجهة داخلية تُبعد الأنظار عن البوصلة الحقيقية.
في الوقت نفسه، كانت الجبهة تشارك في توحيد الجهود الوطنية في إطار منظمة التحرير منذ الدورة السادسة للمجلس الوطني الفلسطيني، المنعقد في القاهرة، بين الأول والسادس من أيلول/ سبتمبر عام 1969. جهود من المُفترض وفقاً لأدبيات الجبهة أن تقود إلى تنفيذ كل قرارات الشرعية الدولية التي تكفل إقامة الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران عام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية.
عربياً وعالمياً، آمنت الجبهة ولا تزال بأن تكريس جهود جميع المحبين لفلسطين يمكن أن يشكِّل نقطة ارتكاز أساسية داعمة للحق الفلسطيني، وضاغطة على الاحتلال وداعميه، يرغمهم على تنفيذ القرارات الدولية العادلة والمحقة، التي أقرتها الشرعية الدولية، بإقامة الدولة الفلسطينية العتيدة.
سبعة وخمسون عاماً، والنضال مستمر ضد نفس المخططات والأهداف، مع اختلاف أساليب الاستهداف، لكن الجبهة في كل مرة كانت تلتقط المخطط منذ بداياته، وتضيء عليه أمام الفلسطينيين والعالم، تحذيراً وتنبيهاً، وصولاً إلى مواجهته بأفضل الطرق، حفاظاً على القضية المركزية، وعلى الأمل بتحقيق الأهداف الوطنية لكل الفلسطينيين.
بين ظروف انطلاق “جبهة النضال الشعبي الفلسطيني” عام 1967، بعد أيام قليلة على نكسة حزيران، وبين الظروف التي تعيشها القضية الفلسطينية اليوم، تعيش القضية الفلسطينية بلا شك أحد أبرز تواريخها المفصلية، وكما في كل موقعة، تنجو فلسطين بفضل مخلصيها الشرفاء، من أبناء فلسطين، أو من المؤمنين بهذه القضية الإنسانية، ورغم أن الأيام الحالية هي من أقسى المراحل التي تعيشها القضية، إلا أن الأمل كبير بأن نقطة الضوء الوحيدة في كومة الظلام الذي نعيشه، ستتحول إلى شمس فلسطينية ساطعة تنير على أهل الأرض التي قاومت وصمدت ولم تنكسر، وسيؤدي بهم إلى الانتصار بعد حربهم طويلة الأمد على قوى الشر والظلام والإجرام في هذا العالم.