أوروبا.. اختبارات الإجهاد السياسي … بقلم : يان فيرنر مولر

2013/04/23
Updated 2013/04/23 at 5:47 مساءً

196267

برينستون– في السنوات الأخيرة، كان الاتحاد الأوروبي -أو إذا تحرينا المزيد من الدقة، الدول القوية في شمال أوروبا- حريصاً على إخضاع الدول الأعضاء الأكثر ضعفاً لاختبارات إجهاد اجتماعية وسياسية باسم الاستقامة المالية. ونتيجة لذلك، أصبح جنوب أوروبا وبعض أجزاء أوروبا الشرقية أشبه بمختبر سياسي، حيث تسفر التجارب عن نتائج متباينة إلى حد لافت للنظر -وغير متوقعة بشكل متزايد- في الدول المختلفة. وفي قمة الاتحاد الأوروبي الأخيرة، تحدث رئيس وزراء لوكسمبورج، جان كلود يونكر، عن عدم استبعاد احتمالات اندلاع “ثورة اجتماعية”.
وبالرغم من أن هذه النتيجة تظل غير مرجحة، فقد يتضح بشكل متزايد أن العديد من الدول الأوروبية -والاتحاد الأوروبي ككل- تحتاج إلى إعادة التفاوض على عقودها الاجتماعية الأساسية. لكن النخب الأوروبية، المنشغلة بالإصلاحات قصيرة الأمد، لا تلتفت للحاجة إلى إجراء مثل هذه المراجعات طويلة الأمد -بما يضر بمصالحها الخاصة.
والواقع أنه على الرغم من الاختلافات الكبيرة بين البلدان، فإن هناك اتجاهاً أصبح الآن واضحاً باطراد في مختلف أنحاء الاتحاد الأوروبي: إن الناخبين، بصرف النظر عن انتماءاتهم السياسية، يسارعون إلى طرد الزعماء الذين يطبقون تدابير التقشف في أول فرصة. ولكن، بعيداً عن هذه المعارضة الشديدة للتقشف، فإن تجارب الدول المختلفة تظل متباينة تماماً.
شهدت اليونان صعود الحزب الفاشي الصريح، الفجر الذهبي، الذي يحتفل بكل فخر بتركة الدكتاتور السابق إيوانيس ميتاكاس. ورغم أن حزب الفجر الذهبي قائم منذ ما يقرب من عشرين عاما، فإنه لم يكتسب القدر الكافي من الدعم لدخول البرلمان مرة أخرى إلا في العام الماضي. وعلاوة على ذلك، تشير الاستطلاعات إلى استمراره في الصعود.
ولا يعكس نجاح الفجر الذهبي رغبة عميقة بين اليونانيين في العودة إلى الحكم الاستبدادي. لقد صعد الحزب ببساطة حين تراجعت الدولة اليونانية -التي ابتليت لفترة طويلة بعدم الكفاءة والفساد- من خلال توفير الرعاية الاجتماعية الأساسية وغير ذلك من الخدمات للمواطنين اليائسين، في حين انخرط في قدر غير مسبوق من العنف ضد المهاجرين أو الأشخاص الذين قد تبدو هيئتهم أشبه بالمهاجرين. وفي محاولة من حزب الفجر الذهبي لتقمص شخصية الدولة، فإنه يجعل أعضاء الحزب ينزلون إلى الشوارع وكأنهم ينتمون إلى لجنة شعبية.
وعلى نحو مماثل، أدى التقشف إلى تفاقم أزمة الدولة والشرعية السياسية التي دامت طويلاً في إيطاليا، والتي انعكست في صعود حزب جديد مناهض للمؤسسة الحاكمة، أو حزب النجوم الخمس الذي يزعم أنه يتجاوز الطيف السياسي اليساري واليميني التقليدي. والواقع أن الحركة تفتقر إلى أهداف سياسية واضحة، بل انها تستفيد بدلاً من ذلك من الاشمئزاز الشعبي من النخب السياسية في إيطاليا -وهي المشاعر التي أدت بشكل مباشر إلى فشل الانتخابات الأخيرة في إخراج فائز واضح. والواقع أن مشاعر الاشمئزاز حادة: فالعديد من أنصار حركة النجوم الخمس يتمنون لو تنتقل السيطرة على الحكومة الإيطالية إلى ممثلي المواطنين، الذين سوف تخضع كل تحركاتهم للرصد رقمياً من أجل منع الفساد.
في بداية الأمر، منح بعض الناخبين دعمهم للتقشف، لكن أحداً لم يدعم إعادة التصريح بالتقشف. ففي أسبانيا على سبيل المثال، أدرك الناخبون العواقب المترتبة على دعمهم الحزب الشعبي الحاكم، الأمر الذي جعل من إسبانيا واحدة من الدول الجنوبية الوحيدة التي أصبح لدى حكومتها نوع من التفويض بتطبيق تدابير تقشف صارمة. لكن ما تواجهه أسبانيا الآن من الركود وأزمة الديون كانا سبباً في تنشيط حركة كاتالونيا الانفصالية القديمة؛ وبذلك يكون التقشف قد تسبب في تحويل مشكلة مزمنة، ولو أن إدارتها ممكنة، إلى مسألة وجودية حادة.
وعلى نحو مماثل، دفع الحزب الديمقراطي الاجتماعي من يمين الوسط في البرتغال بخط صارم مؤيد للتقشف، بما في ذلك الزيادات الضريبية وخفض الإنفاق، منذ وصوله إلى السلطة في العام 2011. ولكن التدابير الجديدة التي بدأ العمل بها الشهر الماضي دفعت المواطنين المحبطين على نحو متزايد -والذين تحملوا حتى وقت قريب التقشف المؤلم بقدر ضئيل من الغضب العام الذي شهدناه في أماكن أخرى من جنوب أوروبا- للنزول إلى الشوارع للمطالبة بإجراء انتخابات عامة قبل عامين من الموعد المحدد لها.
تحمل الاضطرابات السياسية والاجتماعية في مختلف أنحاء أوروبا العديد من الدروس لأنصار التقشف -وخاصة بالنسبة لألمانيا. فأولاً وقبل كل شيء، ينبغي لنا إدراك أن العقيدة التي تزعم بأن تدبير الموارد المالية العامة الناجح -وبشكل أوسع، الدولة العاملة القائمة بوظائفها- يستحيل أن يتحقق إلا من خلال التقشف المؤلم، ليست أكثر من وهم. وعندما يضطرون إلى الاختيار بين مجتمعاتهم وعملائهم، فربما يقرر الساسة أن السماح للتوترات الاجتماعية بالتصاعد -حتى إلى مستويات خطيرة- أفضل من التضحية بقواعدهم التي تضمن لهم الاستمرار في السلطة.
عندما شرعت ألمانيا قبل عشرة أعوام في تطبيق برنامج إصلاحي اشتمل على تخفيضات كبيرة في امتيازات مواطني دولة الرفاه الاجتماعي، وخلق سوق عمالة أكثر مرونة، فقد خالفت بذلك قواعد ميثاق الاستقرار والنمو لمنطقة اليورو. وهكذا، كان من الضروري أن يرتفع الإنفاق العام قبل أن ينخفض، من أجل توفير مهلة من الوقت ريثما يتم التفاوض على أجزاء من العقد الاجتماعي.
أما الدرس الثاني الذي يمكن استخلاصه من جنوب أوروبا، فهو أن التخبط من غير المرجح أن يؤدي إلى النجاح. ويتطلب حشد الدعم اللازم لعقد اجتماعي جديد احترام مبدأ العدالة، وليس الاستقامة المالية فحسب. ومن الضرورات الأساسية في هذا السياق إنشاء آلية لتفويض الصفقة الجديدة -مثل تشكيل ائتلاف موسع مفوض فعلياً من خلال الانتخابات (وليس فقط الدعم المتردد من قِبَل الأحزاب الكبرى للزعماء التكنوقراط مثل ماريو مونتي في إيطاليا).
كبديل، يستطيع المواطنون أن يحاولوا قيادة الجهود الرامية إلى إعادة التفاوض على الترتيبات الدستورية في بلدانهم. فقد شرعت أيسلندا على سبيل المثال في تنفيذ تجربة غير مسبوقة في صياغة دستور “مستمد من الجماهير” ومصاغ من القاعدة إلى القمة. وعلى نحو مماثل، ولو بشكل أقل تطرفا، يشكل المواطنون العاديون ثلثي المؤتمر الدستوري في إيرلندا.
إذا قررت دول جنوب منطقة اليورو سلوك مسار يقودها إلى صياغة اتفاق اجتماعي جديد، فيتعين عليها أن تضمن تقاطع هذا المسار مع مسارات الدول الأعضاء في شمال أوروبا. ومع أن من غير الضروري أن تجتمع كل دول منطقة اليورو على نموذج واحد، فإن اعتمادها المتبادل يعني ضرورة التوصل إلى تسوية اجتماعية واقتصادية لعموم أوروبا.
ينبغي لزعماء أوروبا الآن أن يتجاوزوا شعار “شدوا الأحزمة اليوم من أجل بطون ممتلئة غدا”، والذي يصبح غير قابل للتصديق باطراد، وأن يدركوا أن أزمة اليورو هي أزمة سياسية في جوهرها. وبدلاً من التركيز على الإصلاحات السريعة، يتعين على زعماء أوروبا أن يسعوا إلى إيجاد حلول طويلة الأجل. وهذا يشمل إبرام عقود اجتماعية جديدة.


*أستاذ العلوم السياسية في جامعة برينستون، وعضو كلية الدراسات التاريخية في معهد الدراسات المتقدمة. أحدث مؤلفاته كتاب بعنوان “تحدي الديمقراطية: أفكار سياسية في أوروبا القرن الحادي والعشرين”.
*خاص بـ”الغد”، بالتعاون مع خدمة “بروجيكت سنديكيت”، 2013.

Share this Article
Leave a comment

اترك تعليقاً