إدارة عالم من القوى العظمى

2015/12/12
Updated 2015/12/12 at 10:45 صباحًا

 

تنزيل
مدريد- أصبح التنافس بين القوى العظمى اليوم حقيقة. فالولايات المتحدة الأميركية تتنافس الآن مع روسيا التي تنشط بشكل متزايد، ومع الصين الصاعدة. ويشكل الشرق الأوسط وجنوب بحر الصين وأوكرانيا ثلاثة مسارح فقط يتفاعل فيها هذ الواقع الجديد.
تولد لديَّ انطباع بعد قراءة كتاب وزير الدفاع الأميركي السابق، ستروب تالبوت، المعنون: “التجربة الكبرى”، بأن بذور بعض العوامل التي تلعب دوراً هذه الأيام قد زرعت قبل وقت طويل. ويصف الكتاب محادثة جرت في كانون الأول (ديسمبر) من العام 2000 بين الرئيس بيل كلينتون والرئيس المنتخب جورج بوش الابن؛ حيث ذكر كلينتون أنه على أساس حملة بوش الانتخابية، فإن القضايا الأمنية الأكثر إلحاحاً بالنسبة لبوش كانت صدام حسين، وبناء نظام دفاعي مضاد للصواريخ على نطاق واسع. وأجاب بوش: “هذا صحيح تماماً”.
وقد تم تأجيل النظر في تلك القضايا عندما وقعت المأساة بشكل غير متوقع، والتي جاءت على شكل الهجمات الإرهابية التي شنت في الولايات المتحدة الأميركية في 11 أيلول (سبتمبر) من العام 2001. وأدت تلك الهجمات إلى فترة من التعاون الدولي، والتي تميزت بالتضامن ضد الإرهاب. وكانت تلك فترة شعرنا فيها جميعاً بإننا أميركان. ووصف بوش بوتين آنذاك بأنه “واضح تماما وجدير بالثقة”.
ثم بدأت الأمور بالتغير في كانون الأول (ديسمبر) من العام نفسه، عندما أعلنت الولايات المتحدة الأميركية أنها ستنسحب من معاهدة الحد من الصواريخ الباليستية من أجل بناء نظام دفاعي مضاد للصواريخ، بهدف حماية نفسها من إيران التي يمكن أن تصبح نووية. ولم يمر هذا الأمر يمر مرور الكرام في روسيا.
يبدو أن الولايات المتحدة الأميركية لم تفهم في ذلك الوقت أن عالماً متعدد الاقطاب قد بدأ في الظهور. وهو عالم سوف يجعل من الصعوبة بمكان الاستمرار في السياسات التي ناقشها بوش وكلنتون سنة 2000 من دون عواقب. وقد ذكر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ذلك صراحة في كلمته التي ألقاها في مؤتمر أمن ميونخ سنة 2007؛ حيث رفض بشدة التدخل في العراق، وخاصة الخطط الأميركية لتوسعة الأنظمة الدفاعية المضادة للصواريخ لتشمل أوروبا، حيث وصف ذلك بأنه عمل عدواني ضد روسيا، وخرق للأمن المشترك لأوروبا.
وفي صيف العام 2008، أبرزت ثلاثة أحداث العالم متعدد الأقطاب بشكل واضح. فقد أذهلت الصين العالم كمستضيفة للألعاب الاولمبية، مما عزز من وضعها كلاعب دولي مهم؛ والعمل العسكري الروسي في جورجيا -في خضم تلك الألعاب- والذي أظهر للعالم أن مفهوم مناطق النفوذ ما يزال حياً في الكرملين؛ كما أن انهيار بنك الاستثمار الأميركي “ليمان بروذرز” في الشهر التالي، والذي أدى إلى حدوث أزمة مالية عالمية والتي لم يستعيد الاقتصاد العالمي عافيته منها بشكل كامل بعد، أظهر نقاط الضعف لدى الاقتصادات المتقدمة، علما بأن تلك الأزمة لم تؤثر على الصين بشكل عام.
يبدو أن الصين بهذا الحس الجديد بوضعها كدولة عظمى بدأت في تغيير من مفهوم “الصعود السلمي” الذي أطلقه قادتها منذ حقبة دينج كيساوبينج؛ حيث أصبحت تتبنى سياسة خارجية تنطوي على عرض للعضلات ضمن جوارها. وبدأت الصين، على أساس حقوقها التاريخية المزعومة، بتوسيع مطالباتها الإقليمية إلى جانب حضورها العسكري في بحور الصين الجنوبية والشرقية. وفي العام 2013، وصلت التوترات إلى ذروتها عندما أعلنت الصين بشكل أحادي عن إنشاء منطقة تعريف للدفاع الجوي، والتي تغطي مناطق في بحر الصين الشرقي تطالب بها الصين، ولكنها تحت السيطرة اليابانية.
ولدى العديد من البلدان التي تأثرت بأعمال الصين في بحور الصين الجنوبية والشرقية معاهدات أمنية مع الولايات المتحدة الأميركية، التي تعد القوة البحرية الرئيسة في منطقة المحيط الهادئ منذ الحرب العالمية الثانية. وعليه، اعتبرت الولايات المتحدة الأميركية إعلان الصين لمنطقة تعريف الدفاع الجوي استفزازاً. ويعني قيام الصين بتوسيع مطالبها المتعلقة بالسيادة أن الصين تقوم عملياً بتوسيع مطالبها المتعلقة بالنفوذ.
أخذت المؤسسات الدولية بعض الوقت من أجل مواكبة النظام العالمي المتغير. وتمكنت قمة مجموعة العشرين الكبار في سول سنة 2010 من التوصل إلى اتفاقية من أجل زيادة حصص الدول الناشئة، في صندوق النقد الدولي بحلول سنة 2014. لكن الكونغرس الأميركي رفض المصادقة على التغييرات، وبذلك لم تحقق الاتفاقية أي نتائج.
عندئذ قامت الصين بتولي زمام الأمور بنفسها؛ حيث كانت في طليعة الدول التي أنشأت البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية. وبدا الأمر وكأن المؤسسات الدولية على وشك التفكك، إلى أن قررت الدول الأوروبية الانضمام إلى البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية. وعلى الرغم من مقاومة الولايات المتحدة الأميركية في البداية واستمرار رفضها الانضمام، فقد فسرت قرارها في محادثة لاحقة بين الرئيس الصيني شي جينبينغ والرئيس الأميركي باراك أوباما.
في الوقت نفسه، كانت روسيا تكشف عن طموحاتها الخارجية المتجددة في أوكرانيا. ويعني قيام بوتين بخرق قانون هلسنكي النهائي في ربيع سنة 2014 أن بوتين وضع السياسة الخارجية الروسية في الاتجاه المعاكس للولايات المتحدة الأميركية وأوروبا. وتمت إعادة تأكيد هذا الموقف في أيلول (سبتمبر)، عندما قرر بوتين التدخل في الصراع السوري، وتأمين دور لروسيا في أي محاولة لإحلال السلام في هذا البلد.
لقد أصبح العالم اليوم مختلف تماماً عنما كان يتوقعه البعض في نهاية القرن المنصرم، وبعد عقد من انهيار جدار برلين. ومن الناحية التاريخية، فإن 15 سنة قد تبدو طويلة أو قصيرة طبقاً لشدة التغيير. وخلال الخمس عشرة سنة الماضية من ازدياد التنافس بين القوى العظمى وتجدد انعدام الاستقرار في الشرق الأوسط -بما في ذلك “الربيع العربي” وصعود نجم تنظيم الدولة الإسلامية الوحشي، والحروب بالوكالة بين السنة والشيعة، والمعاناة الإنسانية التي لا توصف- كان التغيير كبيراً للغاية على أقل تقدير.
لكن المواجهة لا تمثل كامل القصة؛ فقد تم اتخاذ خطوات واعدة في مجالين حيويين، هما عدم الانتشار النووي -وخاصة من خلال الاتفاقية النووية مع إيران- ومكافحة تغير المناخ، المتمثل في الاستعدادات المشجعة لقمة المناخ الأخيرة في باريس.
إذا كان هناك درس يمكن تعلمه مما تقدم، فهو أن الدبلوماسية المتماسكة التي يتم تنفيذها بشكل جيد، ما تزال تتمتع بقوة استثنائية لحل الصراعات، علماً بأن هذه الدبلوماسية ما تزال أفضل أداة لتحقيق هذه النتائج التعاونية، التي يتم إعاقة تحقيقها بشكل فعال بسبب المواجهة.

خافيير سولانا*

*كان المفوض الأعلى للاتحاد الأوروبي للسياسة الأمنية، والأمين العام لحلف الناتو، ووزير خارجية إسبانيا. وهو حالياً رئيس مركز “إيساد” للاقتصاد العالمي والجغرافيا السياسية. زميل مميز في معهد بروكينغز، وعضو مجلس الأجندة العالمية للمنتدى الاقتصادي العالمي.
*خاص بـ”الغد”، بالتعاون مع “بروجيكت سنديكيت”.

Share this Article
Leave a comment

اترك تعليقاً