حتى البنك الدولي يدرك الحقيقة: إن فلسطين تختفي

shello
shello 2013/10/27
Updated 2013/10/27 at 11:53 صباحًا

213896


ثمة صورتان أخيرتان تجسدان الرسالة الكامنة وراء الأرقام والإحصاءات الجافة التي وردت في التقرير الذي أصدره البنك الدولي في الأسابيع الأخيرة عن حالة الاقتصاد الفلسطيني.
الأولى، ملصق توزعه مجموعة ناشطي الحملات “تصوير فلسطين”، والذي يحمل صورة معالجة ببرنامج “فوتوشوب” لمتنزه “سنترال بارك” الأميركي وقد أصبح عارياً من أشجاره بشكل مخيف. بين ناطحات سحاب مدينة نيويورك، تم تجريد المتنزه من أشجاره بواسطة الجرافات. ويكشف الشرح المرافق للصورة عن أن إسرائيل قامت منذ بدء احتلالها للأراضي الفلسطينية في العام 1967 باقتلاع أكثر من 800.000 شجرة زيتون تعود للفسطينيين، وهو عدد من الأشجار يكفي لملء 33 مساحة من بحجم متنزه سنترال بارك.
الثانية، صورة نُشرت على نطاق واسع في إسرائيل خلال الشهر الماضي، وهي تعرض دبلوماسية فرنسية ممددة على ظهرها في التراب، وتحدق إلى الأعلى في الجنود الإسرائيليين المحيطين بها، وبنادقهم المصوبة نحوها. وقد تعرضت ماريون كاستينغ لسوء المعاملة عندما حاولت هي ومجموعة صغيرة من نظرائها الدبلوماسيين تقديم مساعدة طارئة، بما فيها الخيام، للمزارعين الفلسطينيين الذين كانت منازلهم قد هُدمت توّاً.
كانت عمليات الهدم جزءاً من جهود مستمرة منذ فترة طويلة تبذلها إسرائيل لطرد الفلسطينيين وإنهاء تواجدهم في وادي الأردن، قلب الأراضي الزراعية لدولة فلسطينية مستقبلية. وقد أفضى تحدي الآنسة كاستنينغ إلى شحنها وإعادتها إلى أروروبا بهدوء، بعد أن سعى المسؤولون الفرنسيون إلى تجنب خوض مواجهة مع إسرائيل.
يشكل تقرير البنك الدولية طريقة للقول بشكل خفي ما كانت الدبلوماسية كاستنينغ وزملاؤها الآخرون إضاءته على نحو أكثر مباشرة: إن إسرائيل تقوم تدريجياً بتقويض كل الأسس التي يمكن أن يقيم عليها الفلسطينيون حياة اقتصادية مستقلة ودولة قابلة للحياة.
يجيء هذا التقرير ليتبع خطاً طويلاً من التحذيرات التي صدرت في السنوات الأخيرة عن الهيئات الدولية حول الوضع الاقتصادي المتردي الذي يواجهه الفلسطينيون. لكن البنك الدولي ركز بشكل ملحوظ على ميدان المعركة الرئيسي للمجتمع الدولي الذي ما يزال يؤوي بشكل جماعي أملاً بائساً بأن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني سوف ينتهي بإقامة دولة فلسطينية.
يركز التقرير على ما يعادل ثلثي مساحة الضفة الغربية، المعروف باسم المنطقة (ج) التي ما تزال واقعة تحت السيطرة الإسرائيلية الحصرية، والتي زرعت فيها إسرائيل أكثر من 200 مستوطنة من أجل الاستيلاء على الأرض والموارد الفلسطينية.
يجب أن يُنظر إلى تقرير البنك الدولي كجزء مصاحب لقرار الاتحاد الأوروبي المفاجئ الذي اتخذه في الصيف، والقاضي باستثناء الكيانات المرتبطة بالمستوطنات من تمويل الاتحاد. ويعكس كلاهما الضيق المتصاعد في العواصم الأوروبية والأماكن الأخرى بالتعنت الإسرائيلي والعجز الأميركي الظاهر. ويشعر الأوروبيون على وجه الخصوص بالغضب من استمرارهم في الدعم الفعال من خلال المساعدات لاحتلال إسرائيلي لا تبدو أن له أي نهاية في الأفق.
مع إرغام إسرائيل والفلسطينيين على العودة إلى مائدة المفاوضات منذ تموز (يوليو)، وبعد أن حذر وزير الخارجية الأميركية جون كيري من أن هذه هي “الفرصة الأخيرة” لإبرام اتفاق سلام، يبدو المجتمع الدولي متحرقاً لممارسة أي ضغط صغير يمتلكه على إسرائيل والولايات المتحدة من أجل تأمين إقامة دولة فلسطينية.
لا شك أن قلق البنك الدولي إزاء المنطقة (ج) مبرر. فهي موضع جميع الموارد التي ستكون الدولة الفلسطينية بحاجة إلى استغلالها تقريباً: الأراضي غير المطورة من أجل البناء المستقبلي؛ الأرض الصالحة للزراعة ومنابع المياه لتنمية المحاصيل؛ المقالع لاستخراج حجارة البناء؛ والبحر الميت لاستخلاص المعادن؛ والمواقع الأثرية لجذب السياحة.
في حالة وجود وصول إلى هذه الموارد، يمكن للسلطة الفلسطينية أن تولد دخلاً إضافية يعادل 3.4 مليار دولار في السنة، وبزيادة في ناتجها المحلي الإجمالي بنسبة الثلث، بما يخفف العجز المتضخم، ويخفض معدلات البطالة التي وصلت إلى 23 %، وهو ما من شأنه أن يخفف الفقر وانعدام الأمن الغذائي ويساعد الدولة الوليدة على التحرر من الاعتمادية على المساعدات. لكن أياً من هذا لا يمكن تحقيقه بينما تحتفظ إسرائيل بقبضتها الخانقة على المنطقة (ج)، في انتهاك لبنود اتفاقيات أوسلو للعام 1993.
لقد رسخت إسرائيل أركان حكمها في المنطقة (ج) بسبب ثراء المنطقة بالموارد الطبيعية. ولا تريد إسرائيل أن يحصل الفلسطينيون على الأصول التي يبنون بها دولة، ولا هي تعتزم فقدان الفوائد المادية العديدة التي حصلت عليها لنفسها وللسكان المستوطنين في المنطقة (ج).
إن معاملة إسرائيل للمنطقة (ج) هي التي تجعل من مزاعم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بأنه يسعى إلى خلق “سلام اقتصادي” مع الفلسطينيين عِوضاً عن إحراز تقدم على الجبهة الدبلوماسية مجرد كذبة. بدلاً من ذلك، فإن الوصف الفلسطيني للسياسة الإسرائيلية على أنها “حرب اقتصادية” هو الأقرب كثيراً إلى الواقع. فخلال فترة أوسلو، تضاعف التفاوت بين نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي الإسرائيلي وبين نظيره لدى الفلسطينيين، ليصل إلى 30.000 دولار. ويقول البنك الدولي إن الاقتصاد الفلسطيني يتقلص بشكل متسارع: حيث انهار معدل النمو البالغ 11 %، والذي نال نتنياهو الفضل عنه في العام 2011، ليهبط إلى 1.9 % في الأشهر الستة الأولى من هذا العام. وفي الضفة الغربية، انكمش الدخل المحلي الإجمالي فعلياً، بمعدل 0.1 %.
على الرغم من مواردها، تعاني المنطقة (ج) من الافتقار الحاد للأموال الفلسطينية. ولا يرغب المستثمرون في التعامل مع سلطات الحكم العسكري الإسرائيلي التي تحرمهم دائماً من تصاريح التنمية وتقيد الحركة بشكل صارم. وتشكل صورة الدبلوماسية الفرنسية الممرغة في التراب رمزاً للمعاملة التي يرجح أن يلقاها المستثمرون إذا ما واجهوا إسرائيل في المنطقة (ج). وفي الأثناء، لا يستطيع المزارعون الفلسطينيون تنمية محاصيل مربحة، بحصص المياه الشحيحة التي تخصصها لهم إسرائيل من خزانات المياه الجوفية التي تعود لهم أصلاً.
إدراكاً منهم للعقبات القائمة أمام تطوير المنطقة (ج)، عمد المسؤولون الفلسطينيون إلى إهمالها ببساطة، مركزين بدلاً منها على الثلث المكتظ بالسكان والفقير بالموارد من الضفة الغربية الواقع تحت سيطرتهم الكاملة أو الجزئية.
كان الأمل أن يتغير كل ذلك عندما أعلن جون كيري في فترة التهيئة لتجديد المحادثات عن خطة لتشجيع مستثمري القطاع الخاص على صب 4 مليارات دولار من أجل تطوير الاقتصاد الفلسطيني. لكن الواقع، كما يشير تقرير البنك الدولي، هو أنه لا يمكن أن يكون هناك أي استثمار جدي في الجوهر الاقتصادي للمنطقة (ج) إلى أن تنتهي السيطرة الإسرائيلية عليها.
في الحقيقة، يقول تقرير البنك الدولي الأخير أن خطة كيري -ومعها دور مبعوث المجتمع الدولي توني بلير، أو ما يدعى بممثل اللجنة الرباعية- ليسا مضللين فحسب، وإنما يشكلان مصدراً للوهم العميق واقعياً. كانت الرباعية تحاول إنعاش الاقتصاد الفلسطيني من أجل تهيئة الظروف اللازمة لإقامة الدولة؛ بينما تقول وجهة نظر البنك الدولي إنه لا يمكن أن تكون هناك دولة فلسطينية، ناهيك عن إنعاش اقتصادي، حتى يتم إجبار إسرائيل على الخروج من المناطق الفلسطينية. ويبدو أن المجتمع الدولي قد قلب المسألة رأساً على عقب.
إن الفكرة القائلة بأن شريان حياة ماليا -سواء كان خطة كيري أو سلام نتنياهو الاقتصادي- سوف يمهد الطريق إلى إنهاء الصراع، هي مجرد وهم. إن السلام، والازدهار، سوف يأتيان فقط عندما يتم تحرير الفلسطينيين من السيطرة الإسرائيلية.

* جوناثان كوك – (ميدل إيست أونلاين) ترجمة: علاء الدين أبو زينة- الغد الاردنية

فاز بجائزة مارتا جيلهورن للصحافة. آخر كتبه هي: “إسرائيل وصدام الحضارات: العراق، إيران، وخطة إعادة تشكيل الشرق الأوسط.” و”فلسطين المتلاشية: تجارب إسرائيل في البؤس الإنساني“.

Share this Article
Leave a comment

اترك تعليقاً