فيصل حوراني يكتب حول الحملة ضد محمد بكري :”قـبـيـحــة بَـطَـلَ تــأثـيــرهـــــا”

2017/10/04
Updated 2017/10/04 at 7:58 صباحًا

وجهت الصفحة الثقافية هذا السؤال للكاتب الفلسطيني فيصل حوراني:
“هناك حملة تستهدف الفنان الفلسطيني محمد بكري بسبب مشاركته في فعالية ثقافية في العاصمة اللبنانية بيروت، كما تستهدف المؤسسات الداعية والمنظمة لهذه الفعالية، تحت شعار محاربة “التطبيع” الثقافي، هذا يُذكّر بالحملة الشهيرة التي تعرضتَ لها في العام 1968 من القرن الماضي بعد مصافحتك محمود درويش في صوفيا الذي كان ضمن وفد حزب “راكاح”، هل ما زال العقل العربي السياسي هناك بعد خمسة عقود تغير خلالها العالم أكثر من مرة؟!”، فجاءنا منه هذا المقال.
الشريحة من النخب العربيّة الثقافيّة، وبضمنها الفلسطينيّة التي تقترف أو تؤيد هذا الهجوم العربي على محمد بكري هي من نوع الشريحة التي هاجمتني قبل خمسة عقود لأنّني صافحتُ محمود درويش في صوفيا، وأبيتُ أن أقاطعه أو أقاطع غيره من المبدعين الذين جاؤوا في عداد الوفد الإسرائيلي للمشاركة في مهرجان الشباب العالمي، وكان أعضاء الوفد كلُّهم، من أعضاء حزب راكاح أو أصدقائهم، وذلك لأن اللجنة الدولية لمهرجان الشباب هذا لم تقبل مشاركة أي إسرائيلي ينتمي لجهة أيّدت عدوان دولته على العرب.
ما تبدّل بعد انقضاء السنوات الخمسين ليس هو فكر هذه الشريحة أو دوافعها، بل هو حجمها. وما من أحد يحاجج الآن في أنّ هذا الحجم قد تضاءل، فصار ناس هذه الشريحة أقليّةً بعد أن كانوا أغلبية، وإذ وُجدت أي محاججة فإنها تدور بين من يرى أنهم أقليّة هزيلة وبين من يرى أنهم أقليّة لها حضور وتأثير على الساحة الثقافية.
وما دام الأمر أمر مقارنة بين ما تعرّضنا، محمود درويش وأنا، له آنذاك، وبين ما يتعرّض له محمد بكري والذين رحبوا به في بيروت الآن، فإنّ ثمة، فعلاً، كثيراً مما هو مشترك بين الواقعتين. وأهم ما يستحق التوقف عنده في هذا المشترك هو أن الهجوم في الحالتين وُجّه إلى شيوعيَّين فلسطينيَّين مبدعيَن جاءا من إسرائيل للمشاركة في، أو لتقديم، فعالية تفضح العدوان الإسرائيلي على أرض العرب وحرياتهم وحيواتهم. محمود جاء إلى صوفيا في العام 1968، سنة واحدة بعد هذا العدوان، وساهم مع رفاقه وأصدقائهم في فضح العدوان الإسرائيلي، وكان الشعار، الذي رفعه هؤلاء مكتوباً وردّدوه في كل مكان مهتوفاً، وسلكوا بكفاءة عالية في هدى مضمونه، هو شعار راكاح الشهير: “أرض العرب للعرب، مع الشعوب العربية ضد العدوان الإسرائيلي”. ومحمد بكري جاء إلى بيروت ليقدم عرضاً جديداً لأهمّ مسرحياته، المسرحية المقتبسة إعداداً من خالدة إميل حبيبي “المتشائل” والتي هي رواية أجمع النقّاد والقرّاء العرب مع غالبية قرائها ونقادها غير العرب على أنها أهم ما أبدعه إميل حبيبي، وأهمّ رواية جسّدت بلغة الأدب السافر الراقي قضية فلسطين وما حلّ بأهلها، وأنها واحدة من أهمّ الروايات العربية وغير العربية. وفي الواقعتين ذاتيهما، شمل الهجوم من قدّروا هذه المساهمة من المبدعين، دون أن تطمس هواجس الفداء للشيوعية بصرهم أو بصيرتهم.
وللقارئ أن يعلم أنني استعرضتُ أسماء من أُتيح لي في سنوات عمري أن أتعرفَ على مساهماتهم في الحياة العامة من بين نشطاء الحملة على محمد بكري ومن احتفوا به في لبنان، وأنّني استحضرتُ مخزون ذاكرتي ونبشتُ فيه، وأنّني لم أجد في هذا المخزون ما يوحي بأن هؤلاء قد هاجموا بالحدّة ذاتها آخرين غير شيوعيين حين زاروا بلاداً عربية ورُحِّب بهم فيها. ولمن يحتاج إلى مثال أقدّمه أنا، فإني أضرب مثلاً السيد الدكتور عزمي بشارة، فهذا الرجل زار، بعد ارتداده عن شيوعيته، كلاً من مصر وسورية ولبنان والأردن، أي كل دول المحيط العربي وقابل فيها عدداً من حكامها ومن غير الحكام، فيما كان هو نفسه عضواً في الكنيست الإسرائيلي، بلغ به تأييدُه لشرعية وجود إسرائيل أنه هدّد ذات يوم بأن ينافس بنيامين نتنياهو على منصب رئيس حكومة الدولة التي تحتل أرضَ شعبه. فهل كان عزمي بشارة سينجو من تهمة التطبيع مع العرب لو لم يكن قد ارتدَّ عن شيوعيته ووضع نفسه في خدمة واحد من أحطّ مراكز الرجعية على الساحة العربية؟.
استحضار ما استحضرتُه أوصلني إلى استخلاص أودّ أن أثبّته هنا: لقد شُنّت الحملة على محمود درويش ومَن صافحه حين كان هو شيوعياً، عضواً في راكاح بالذات. وشُنّت الحملة على محمد بكري وهو عضو في راكاح الذي استعاد اسمه السابق: الحزب الشيوعي. فهي، إذاً قروح التعصّب القومي ضد الشيوعيين، وليست الرغبة المدّعاة بنية حسنة أو بنية سيئة في مقاومة أي تطبيع مع الدولة المعتدية وأي من حاملي جنسيتها. ولو جاز أنها رغبة في مقاومة تطبيع، فهذا يجيز لنا أن نعدَّها رغبةً في مقاومة التطبيع بين العرب التقدميين أنفسهم. ومن المَعيب أن يُعدَّ حزبٌ شيوعي في عداد الأحزاب الصهيونية وأن يُعدَّ محمد بكري صهيونياً ويحذَّر من التعامل معه.
أركّز على هذه النقطة بالذات من بين نقاط كثيرة تحدد دوافع الهجوم الذي يتعرض له محمد بكري. وأرى أننا إزاء شريحة من البشر أقفل ناسُها بصرهم وبصيرتهم كليهما، فعميت عيونُهم عن رؤية الواقع، كما عميت بصائرُهم عن فهمه، خصوصاً منهم ما هو فريد في الحالة الفلسطينية. ومَن قد يدَّعي من هؤلاء الناس أنّ بصره وبصيرته سالمان، فإن سلوكه إزاء فنّاننا الكبير والذين رحّبوا به في بيروت يجيز لنا أن ندينه بأنه يستغفل أمثاله من المتعصّبين. وإذا كان ناس هذه الشريحة يتسترون بيساريّة يزعمون أنها نقية، فهذا يُدينهم بأن عداءهم لمتقدمي الوعي في شعبهم يضعهم هم في خدمة أحطِّ شرائح اليمين العربي وأكثرها تخلُّفاً وأسرعها هرولة نحو التعاون مع إسرائيل وصهيونيتها بالذات.
وما دمتُ قد أوردتُ ما هو مشترك بين واقعتين متشابهتين، فلا ورد أهمّ مما هو مختلف بينهما. محمد بكري ينتمي لحزب يؤيد سلوك فنانيه في الحياة العامة، ويعتزُّ بمنجَزهم، ويتنافس أعضاؤه في التداعي إلى حمايتهم كلما تعرض أي منهم لأي أذى من أيّ مصدر من المصادر التي تستهدف مبدعي الشعب الفلسطيني بسبب إبداعاتهم. أما أنا فكنتُ في العام 1968 عضواً في حزبٍ فيه كثيرون من أمثال الذين يهاجمون الآن محمد بكري ومَن رحّبوا به في بيروت، لكنّني أبيتُ أن أُلبّي القرار الذي اتخذه نفر من هؤلاء بمقاطعة محمود ورفاقه وأصدقاء حزبه، وسعيتُ إلى الالتقاء به وبمن تيسّر من رفاقه، وأفلحتُ في الاتصال به وبهم، وسعدتُ بهذا الاتصال. وحين نظّم الوفد العراقي إلى مهرجان صوفيا للشباب لقاءً مخصصاً للاحتفاء بشاعر العراق الكبير محمد مهدي الجواهري، لنا، محمود درويش وأنا، بين الجمع الغفير الذي شهد هذا اللقاء، فتصافحنا أمام الجمهور، وكانت هذه هي المصافحة التي ذاع خبرها فوصل إلى مسامع قيادة الحزب الذي أنتمي إليه.
كان حزبُ البعث أيّامها مولعاً بالفكر القومي العربي في أشدّ طبعاته تطرفاً. ووقعتْ داخل قيادة الحزب خلافات بشأن نوع العقوبة التي ينبغي أن أتعرّض لها بسبب إبائي أن أعدَّ راكاح في عداد الصهيونيين، وهو الحزب الذي يأبى أعضاؤه العرب واليهود أن يجمعهم أي جامع بصهيونيي اليهود وغير اليهود، والذي يؤيد الشعب الفلسطيني ومطالبه وسياسة قياداته وخياراتها تأييداً أقوى من تأييد هيئات سياسية وأنظمة حكم عربية لهذا الشعب. ولكن الخلاف الذي وقع بشأن معاقبتي في قيادة الحزب دار بين فريقين في القيادة: واحد شاء أن يُعاقبني بوصفي خائناً؛ وآخر عدّ ما فعلتُه خطأ أُعاقَب عليه حسب نظام الحزب عقوبة مسلكيّة. وإذا نجوتُ من العقوبة التي يفرضها قانون البلد على الخونة، فإنّني تعرّضت لأقصى عقوبة يفرضها قانون البلد على الخونة، فإنّي تعرضت لأقصى عقوبة يفرضها نظام الحزب: الطرد والتشهير. وقد حدث هذا، فقط، لأن الفريق الذي أراده كان وقتها هو الفريق الأقوى بين فريقي القيادة. ومن الطريف أن قرار هيئة التحقيق الحزبيّة معي التي ترأسها فلسطين من أعضاء قيادة الحزب القومية سوّغت الطرد بما وصفته بخروجي عن خطّ الحزب السياسي واتباعي سلوكاً أساء لسمعة الحزب، وعَدَّت القيادة هذا الوصف مثلبةً خطيرة!
لم تُرضِ هذه النتيجة الفريق الذي شاء أن أُحاكَم قضائياً بوصفي خائناً، فتبع صدور القرار ترتيب أعدّه هذا الفريق. وإذا كان أنصار الفريق الأول قد اتكؤوا على تقرير أعدّه أدباء من مواليهم كانوا معنا في صوفيا، فإن الفريق الذي رماني بالخيانة استكتب مخبراً من مخبريه في صوفيا، فكتب هذا تقريراً يمكن الاتكاء عليه لإلصاق هذه التهمة بي، مَن أتحدث عنه قد رحل عن دنيانا، فلن أذكر اسمه، هو الذي كان يشغل آنذاك مؤقتاً في سفارة البلد في صوفيا. فبين أشياء أخرى مختلقة، قال هذا المستكتب في تقريره إني لم أخالف فقط موقف أعضاء وفدي حين قاطعوا مسيرة افتتاح مهرجان الشباب لأن وفد راكاح، الصهيوني، كما وصفه هذا المستكتب، شارك فيه، بل إنني تحدَّيتُ وفدي وقرار قيادته المؤيَّد من قبل قيادة الحزب، وسرتُ بجانب محمود درويش مع الوفد الآخر تحت العلَم الإسرائيلي.
وبسبب هذا التقرير وبالاتكاء عليه، احتجزتُ نهاراً كاملاً في مقرّ الأمن الخارجي، لتحقيق بدت مشقّتُه لي طريفة. وإذا نجوت من البقاء في المحتجز، فلأني استخدمتُ خبرتي في التحايل على ناس الأمن السياسي، خبرتي المديدة كما ينبغي أن أبين، وأوصلتُ رسالة إلى قائد بعثي تعهد حمايتي في كل مرّة تعرضتُ فيها لسوء، فتدخل، وأفضى تدخّلُه إلى الإفراج عني حتى مع الاعتذار. يستحق هذا القائد أن أنوّه الآن بحمايته لي ولكلّ البعثيين الفلسطينيين من المشاغبين أمثالي؛ إنه الدكتور يوسف زعيّن الذي رحل عن دنيانا مؤخراً.
الذين اتكؤوا على تقرير مُخبرهم في السفارة في صوفيا أُسقط في يدهم لأن د. زعيّن أحبط تدبيرهم، فعمدوا إلى توزيع التقرير على مكاتب الأمن العديدة في كل بلدات الدولة، وفيه التهمة المختلقة الشنيعة: سيرى في ظل العلم الإسرائيلي مسيرة شهدها وصوّرها أكثر من ألف صحافي. ولا أستبعد أن يكون هذا التقرير محفوظاً إلى الآن في ملفّات الأمن في كل بلدة من بلدات الدولة.
شخصٌ آخر أودّ أن أُنوّه بموقفه لأنه يستحق الإشادة به، ولأنه رحل عن دنيانا. أتحدث عن شاعرنا الكبير المرحوم يوسف الخطيب الذي كانت خلافاتي السياسية والفكرية معه تفوق ما نتفق كلانا عليه، وكان بضمن ما نختلف عليه الموقف القومي من مواقف الأحزاب الشيوعية في القضية الفلسطينية. كان يوسف يُميّز بين إبداع المبدع وبين سلوكه السياسي أو الشخصي، وكان مفتوناً بإبداعات الشعراء الفلسطينيين الذين قدّر لهم أن يبقوا في وطنهم وقدّر عليهم أن يحملوا الجنسية الإسرائيلية. فلما أثير اللغط الكثير حول حكاية المصافحة، اتصل الأدباء الذين كتبوا التقرير الحزبي في دعم هجومهم. واتصلتُ، من جانبي، بيوسف، لأني أعرفه أكثر مما يعرفه هؤلاء، أعرف معدنه وطريقة حكمه على المبدعين. وكان أن سجلتُ منه تعهّده الذي نفّذه: أفهم لهفتك على الالتقاء بأبناء شعبنا الذين لا يُتاح لنا أن نلتقي بهم في وطننا المغتصب. أمّا هؤلاء الذين هاجموا محمود وهاجموك، فأنا حتفهم، وسوف يشهدون منّي ما لن يسرّهم. وفي تنفيذ هذا التعهّد، جنّد يوسف نفسه وجهده ومكانته وصلاته على كل المستويات، هو الذي كان رئيس الدولة وقادة الحزب الحاكم والوزراء جميعهم ممّن يتمنّون الظفر بصداقته، وشنّ حملة مضادة، خفّفت غلواء بعض المهاجمين، وبدّلت قناعات آخرين، وأغاظت غيرهم.
وأظنّ، في ضوء المقارنة بين الواقعتين، أن على محمد بكري أن يغبط نفسَه لأنه ينتمي لحزبٍ متقدم الوعي عميق الخبرة في مقاومة التعصُّب والعدوانية الصهيونيين وكل تعصُّب آخر أو عدوانية أخرى. إنه الحزب الذي يُقدّر منجزَ مبدعيه وكل المبدعين ويعتزّ به. ولمحمد أن يثق بأن ناس الأقلية التي تهاجمه الآن بينهم من يفعلون هذا عن قناعة به، وهؤلاء هم الذين وصفهم القائد الشيوعي محمد بكري بأنهم محترمون وحثّهم على أن يتراجعوا عن إدانتهم لسلوك محمد بكري. ولمحمد، الذي أعتزّ بصداقته، أن يثق، أيضاً، بأن أعداد الذين يقدرون سلوكه أكبر بكثير من أعداد الذين يضيقون به من المحترمين وغير المحترمين.
أمّا غير المحترمين، هؤلاء الذين يستحقون وصفهم بأنهم مرتزقة يمالئون إمّا الصهيونيين الذين يشنُّون على محمد بكري حملةً مثابرة، وإما مراكز الرجعية العربية المهرولة، هي ذاتها، نحو التحالف مع صهيونيي إسرائيل، دون غيرهم، فبودّي أن أوجّه لهم هذا السؤال: ما دام الأمر بالنسبة لكم أمر ارتزاق عَبر ترويج أحطّ المواقف، ألا ترون عبثيّة إصراركم على مهاجمة الشيوعيين، أي على اقتراف قبيحةٍ بَطَلَ تأثيرها، خصوصاً تأثيرها على الفلسطينيين، أو كاد يبطلُ، وأنّ من الممكن أن نبلغ وقتاً قد لا يظلّ بعيداً، يَبطلُ فيها الارتزاق بهذه الوسيلة، فلماذا لا يبحثون لأنفسهم عن وسيلة للارتزاق أطول أمداً من هذه القبيحة، وما أكثر ما هو متوفر من وسائل الارتزاق بممالأة الرجعيّين والصهيونيين والأميركيين الإمبرياليين وغيرهم ممن على شاكلتهم.
ولمتقدمي الوعي من مثقفينا الفلسطينيين والعرب الآخرين أقترح أن يوسّعوا مساهماتهم في نشر الوعي المتقدم، وأن لا يبيحوا لمتخلفي الوعي، أيّاً ما كانت عليه صفاتهم ودوافعهم، أن ينفردوا بالهجوم على الآخرين، حتى لا يتوهّم أحد أن متخلّفي الوعي هم الأغلبية بين مثقّفينا.

Share this Article
Leave a comment

اترك تعليقاً