وأبى محمود درويش ، هذا الشاعر المرهف والمختلف ، إلا أن يرحل في قمة العطاء وفي ذروة الحالة الشعرية التي لا تعرف التوقف ، رحل عميد الشعراء وفارس اللحن الجميل وصاحب الكلمات عابرة الحدود ،فلماذا تركت الحصان وحيدا وتركتنا وحيدين كأحجار الرحى وقد افعمتنا بأريج شعرك وكبرياء قصيدتك الخالدة ، فلم تكن مجرد شاعر يكتب الشعر ، بل كنت دوما مجترحا للمعجزة ، وها هي الكلمات تعجز عن وصفك يا سيد الكلمات ويا فجر الثقافة التي جددت فينا عميق الانتماء وجسدت هوية حضارية للشعب الفلسطيني ورفعت من معنوياته الكفاحية والنضالية فكانت قصائد محمود درويش سلاحا ووقودا يشعله المناضلون وأطفال الحجارة ، وزخما للقضية المركزية التي انتميت لها ، أيها الشاعر الذي أغنيتنا بالشعر الذي لم يعرف الهزيمة ولم يعرف إلا لغة الإباء والشموخ والمعاندة فكانت قصائدك لهيبا وذخيرة وحجارة على المارون بين الكلمات العابرة وأنت تصرخ في وجوههم أن يخرجوا من بيننا ، من أرضنا ، من بحرنا ، من ملحنا ، وبوحا صادقا وتعبيرا عن حالة الوجود وعن نشوة الوصول وعن الحق الذي سينتصر رغم انف الاحتلال ورغم قسوة المرحلة .
بكل تجلياتك ، وبكل أناقتك ترجلت عن صهوة القصيدة لتحلق في سماء الخلود فارسا ، لن تنساك الأجيال ولن تبرح قصيدتك التي كتبت ولكنها عاتبة عليك لأنك لم تمهلها لتكتب لها قصيدة الانتصار التي طال انتظارها ، عرفناك شاعرا ومناضلا صلبا في الأزمات تحديت كل الصعاب وواجهت بكل كبرياءك عتمة المرحلة وستائرها المسدلة على مراحل الهزيمة والفجائع والخرائب والانشقاقات ، وها أنت ترحل وقد تركتنا وحيدين على قارعة الطريق، وأي طريق سيسلكه الشعراء من بعدك يا من كنت وما زلت نبعا للشعر ونهرا متدفقا بكل آيات الصدق والوفاء بما حملته من رسالة إلى العالم مبشرا بقضية فلسطين وأنت تؤنسن هذه القضية مدافعا عن كرامة وحق الشعب الفلسطيني في الزمن المستحيل ، وقد خط قلمك ( وثيقة الاستقلال ) بما حملته من دلالات سياسية وفكرية وثقافية وحضارية لتكون عنوانا لمرحلة جديدة في تاريخ الشعب الفلسطيني وهو يناضل من اجل انتزاع حقوقه الوطنية في الحرية والعودة والاستقلال ، سنفتقدك شاعرا تحمل الحلم وتصنع المستحيل وتقاوم ليل الغربة والمنافي وشتات الشتات ، سنفتقدك شاعرا غرزت أناملك في مقلة الجرح وفتحت عباءتك للريح يا معجزة فلسطين الخالدة .
ماذا نقول في مديح ظلك العالي وأنت العاشق الفلسطيني وأنت جدارية الصمود وأنت الذي لم تعتذر ، ولماذا تعتذر أيها الجبل الأشم الذي يعبق من هواء الجليل والجرمق وعيبال ويعانق مهجة الأحبة المتوافدين إليه من أركان الأرض الحبية فلسطين ليقفوا في وقفة الإباء والمحبة لمن غرس فيهم معاني الانتماء بالدلالات الواضحة وبلا رتوش.
رحيلك هذا نكبة جديدة تضاف إلى سلسلة النكبات المؤلمة التي مرت على الشعب الفلسطيني ، وقد كنت النموذج والعنوان للثقافة الوطنية الديمقراطية ، كنت مشرعا ثقافيا لشعب كامل يناضل من اجل حريته وخلاصه من ليل الاحتلال الطويل ، إرثك الوطني والنضالي وتجربتك الشعرية المتفردة والعريقة والتي حملت في ثناياها كينونة الوجود الفلسطيني وعبارات الحضارة والأمل وقد وازنت بين المثقف والسياسي وبين الشاعر والمناضل الذي لا يعرف الراحة ، وقد رحلت مثل نبي بلغ رسالته وخلد إلى الراحة فنم قرير العين فبصماتك في كل مكان وأشعارك تملأ أركان الأرض ، وبكل اللغات وشعبك الأبي لن ينساك ، ومن ينسى نبيه وينبوع وحيه .