غيفارا … شاعراً؟
عبده وازن
تنتهي خلال أيام الاحتفالات العالمية بالذكرى الأربعين لإعدام إرنستو تشي غيفارا، يكفي أن تقول «تشي» أو «غيفارا» حتى تتذكر تلك الصورة التي غزت العالم، صورة الشاب المرسل الشعر والملتحي والمعتمر «بيريه» عسكرية تتوسطها نجمة، والمحدّق بعينين بارقتين إلى البعيد، حالماً بمستقبل يتخيله مشعاً.
هذه الصورة التي غدت أشبه بـ «أيقونة» واحتلت جدران غرف الشباب وحيطان الجامعات والنوادي والحانات في العالم غداة مقتله في العام 1967، استطاعت أن تطغى على صور نجوم الغناء والسينما، جاذبة الأجيال جيلاً تلو جيل، إنها «الفتنة» التي تثيرها هذه الصورة التي التقطت ببراعة ملؤها الإحساس بالسحر والواقعية والغموض.
هذه الصورة التي ساهمت كثيراً في نشر أسطورة «غيفارا»، اكتفى بها شبان كثيرون من غير أن يلمّوا تماماً بسيرة صاحبها وأفكاره، أما الصورة الأخرى المشهورة أيضاً لغيفارا مقتولاً، عاري الصدر وكأنه الناصري بعد إنزاله عن الخشبة، فلم تستطع أن تسيطر على الصورة الأولى على رغم طابعها الأيقوني أيضاً والمأسوي، وجماليتها الدرامية.
العالم الذي يسميه البعض «قديماً» ما برح يحتفل بهذا الشاب الثوري الذي حلم بما سمّاه «الإنسان الجديد»، جماعات لا تحصى في كوبا وسائر البلدان الأميركية اللاتينية وفي أوروبا والولايات المتحدة نفسها، تذكرت مقتل «الغيريلليرو»، بطل «حرب العصابات»، الحالم والمتمرد، وكأنه لم يغب، بل كأن الأعوام الأربعين التي مضت زادته حضوراً على رغم كل التحولات التي طرأت وفي مقدمها انهيار المعسكر الاشتراكي وسقوط «الايديولوجيا» وتداعي جدار برلين… لا يزال غيفارا يمارس سحره على الأجيال، قديمها والجديد، وما زال بعض المفتونين به يعدّونه «قديساً» حتى وإن قرأوا قصيدته الشهيرة «ماريا العجوز» التي كان اكتشفها قبل أعوام الشاعر الكوبي نيكولا غولين، وفيها يخاطب «الجدة البروليتارية» داعياً إياها إلى عدم الصلاة وواعداً إياها بـ «الثأر الأحمر». هذه القصيدة ليست الوحيدة التي كتبها غيفارا.
فقبل أيام صدرت في غواتيمالا «أعماله الشعرية الكاملة» مفاجئة «أنصاره» ومحبيه و «جمهوره»…. وضمّت هذه «الأعمال» عشرين قصيدة منسية أو مجهولة كان كتبها بين العامين 1953 و 1956 عندما كان يتنقل بين غواتيمالا وبوليفيا والمكسيك، ونشرها في صحف ومجلات ولم تلبث أن ضاعت، فهو كان حينذاك مغموراً وفي العقد العشرين من عمره.
تشي غيفارا شاعراً إذاً. هذه صفة جميلة تضاف إلى خصاله الأخرى. ومَن أجدر من الثوريين الحالمين أن يكونوا شعراء؟ تُرى ألم يكن الشاعر الفرنسي رامبو الذي نادى بـ «تغيير الحياة» شخصية ثورية مثله مثل كارل ماركس الذي نادى بـ «تبديل العالم»؟ إلا أن حال غيفارا تختلف طبعاً، فهو سيظل شاعراً «مراهقاً» وهاوياً ما دام الشعر عَبَرَ حياته كالطيف وفي أعوام اليفاع. وقصائده تدور حول عمال المناجم وحول الحب والصداقة والتمرد وسائر الموضوعات التي تميّز بها الشعر الاشتراكي والملتزم. واللافت أن «الأعمال» هذه ضمّت قصائد لشعراء كبار من أميركا اللاتينية من أمثال بابلو نيرودا وماريو بينيدنتي…
لكنّ الذكرى الأربعين لم تخل من مبادرات سعت إلى تشويه أسطورة غيفارا، كما حصل سابقاً. وأجرت بعض الصحف الأوروبية تحقيقات جعلت صورته «تهتز» ناقلة عن بعض رفاقه في السلاح كلاماً يسيء إليه. وقد وصفه أحدهم بـ «المتعجرف والقاسي والعنيف الذي يأمر بالقتل وكأنه يشرب الماء». وقال آخر أن غيفارا كان يمارس دور الجلاد في المعسكرات والسجون، وأمر بإعدام أكثر من مئتي معتقل، لكنه لم يكن ينفذ الإعدام بيده. وكان بين الضحايا فلاحون ومزارعون فقراء. ويقول الكاهن جافيه آرزواغا الذي كان مسؤولاً عن المعتقلين في سجون كوبا إن غيفارا كان «عنيفاً وشرساً وسادياً» في تعامله مع المعتقلين وأهاليهم الذين كانوا يتوسلونه لرؤية أولادهم، «ولم يرحم الآباء والأمهات مجبراً إياهم على رؤية دماء أولادهم».
مثل هذه الشهادات أليمة طبعاً وتكشف «الوجه الخفي لتشي» بحسب عنوان كتاب صدر حديثاً في باريس في الذكرى الأربعين لإعدامه. هذا الكتاب الذي وضعه جاكوبو ماكوفير، الكاتب الكوبي المنفي إلى فرنسا، «يفضح» بعض أسرار غيفارا وتناقضاته واصفاً إياه بـ «المتمرد» الذي كان يؤدي «دور الجلاد والضحية مداورة». ويصفه أيضاً بـ «الرجل الثوري» بـ «طوباويته» و «قسوته» المتلازمتين. ويرى ماكوفير أن وراء هذا الثائر «الفوضوي الرومنطيقي» يكمن «شخص ستاليني متعصب». ويقول إن غيفارا كان «مجرد قطعة في رقعة شطرنج كاسترو». حتى أفكاره الثورية يعدها «خالية من المعنى العملي» وقد «تخطاها الزمن». وفي نظره أن قدمي غيفارا «لم تكونا على الأرض» وأن كاسترو هو الذي ساهم في جعله «أسطورة» بعدما أخفى نواحي من شخصيته، وأن مثقفين كثيرين في العالم ساهموا في صنع هذه الأسطورة من خلال ما يسميه «التساهل المذنب».
تُرى هل يستحق غيفارا هذه «السهام» التي ما برحت توجّه إليه منذ إعدامه؟ ألا تحتاج «أسطورته» إلى التسامح والتناسي بعدما مضت الأعوام الأربعون على رحيله؟ صحيح أن الحالة الأيقونية التي اعترت صورة غيفارا بهتت قبل أعوام لا سيما مع سقوط المعسكر الاشتراكي وانطفاء «جمرة» الشيوعية، إلا أنه يظل رمزاً ووجهاً مجازياً وحلماً أو مشروع حلم. وكل الفضائح التي طاولته وتطاوله ستظل أشبه بالرياح العابرة التي لن تسقط المثال الذي صنعه بدمه وروحه.
في عالمنا العربي تذكّره الكثيرون ورددوا أغنية الشيخ إمام التي كتبها أحمد فؤاد نجم «غيفارا مات»… شاخت هذه الأغنية! صحيح. لكنها ما برحت تحمل الكثير من الحنين إلى زمن أصبح في حكم الذكرى.