صبحي غوشة لا يجلس على مقاعد الغياب
بقلم : د. وائل أبو عرفة
بادئ ذي بدء ، اعتذر من أخي وشاعري الراحل محمود درويش ، لاستعارتي هذا العنوان الشيق من بنات أفكاره ، ولست ادري كيف عاد بي الزمن خطوات إلى الوراء لأعيد صياغة اللغة الجميلة ، واغوص في إشكاليات الزمن المبتعد شيئا فشيئا عن حدود جغرافيا المكان ، في وقت كنت بأشد الحاجة فيه للبحث عن منافذ جديدة ادخل من خلالها إلى حديقة المستقبل ، إلا انه امرؤ القيس ، صديقي المشاغب من غابر الزمان ، يأبى إلا أن يقتحم عليّ عزلتي ، ويقلق منامي كعادته ، ليذكرني بما قد يكون قد غاب عن ذاكرتي المتعبة ، وأنا له من الشاكرين .
كنت بصدد كتابة ما تمليه عليّ قريحتي عن القدس عاصمة الثقافة ، عاصمة الجوائز الباهتة ، التي تنهال يمينا وشمالا ، من المؤسسات الرسمية والأهلية إلى كل من هب ودب سوى هؤلاء الذين يستحقونها عن جدارة واستحقاق باسم عاصمة الثقافة ، وعاصمة الوجود ، حين قاطعني صديق قديم قدم أجمل المدن القديمة وأقدم المدن الجميلة في ثنايا القلب وتضاريس الجسد ، ليقطع عليّ حبل أفكاري بابتسامته المعهودة ودعابته المميزة ، لأقول له ، أين أنت يا رجل وأي قمر قد رماك صوبي .
كدت أن افقد بعضا من صوابي ، حين اخبرني انه كان في عمّان لمشاركة آخيه الدكتور صبحي غوشة الاحتفال بعيد ميلاه الثمانين .
كانت هذه العبارة ، شرارة حولت مسار أفكاري إلى عالم ليس بالقريب أو البعيد ، وأعادتني سنوات إلى الوراء ، بعضا منها لم أكن قد أتيت فيه إلى هذه الحياة المتعبة ، ولم أكن قد عايشت فيها ما كان من أحداث وأزمات تركت بصماتها الواضحة على مسيرة لم أكن قد اخترت السير فيها على مضض ، وبعضا آخر كنت قد عايشته أو سمعته رواية ممن عايشوه عن رجال بقيت بصماتهم واضحة في سماء مدينة منحوها كل ما تجود به النفس ، دون انتظار لأية مكافأة أو مكسب شخصي يعود عليهم بالمنفعة أو الجاه ، أو جائزة يمن عليهم بها هذا الفريق أو ذاك ومن بين هؤلاء كان الدكتور صبحي غوشة ، الطبيب الإنسان والإنسان المناضل الصامت ضد المرض والفقر والجوع ، ومن اجل حرية الإنسان وعلو كلمة الحق ولو على قطع رأسه .
حاولت ترتيب أفكاري واستعادة بعض روايات عايشها أو سمعتها على لسان من عايشوا هذا العملاق الاستثنائي في سماء زهرة المدائن ، إلا أن هذه الأفكار المشوشة قد خانتني أكثر من مرة في زمن عزّ فيه الرجال وتكاثرت فيه خفافيش الليل ـ ولم يبق من سماء القدس إلاّ لونها الأزرق حينا والأسود في كثير من الأحيان .
لقد كان صبحي غوشة ، لمن لا يعرف من الأجيال الجديدة ، نجمة ساطعة في سماء تلبدت بالغيوم ، وشمعة مضيئة في أحلك الليالي ظلمة وأكثرها سوادا ، قابلته مرة واحدة في حياتي قبل عشر سنوات عندما عاد استثنائيا ليعانق تراب القدس التي عشق وأحب ، نافضا عن جبهته غبار ثلاثين سنة من الترحال والمنفى ، واضعا قلبه في حقيبته ليلقي نظرة الوداع على أمه التي ولدته كي تربيه الرياح ، من عتمة الزنزانة المقيتة إلى ظلام المنفى والابتعاد عن جاذبية المكان وجغرافيا الوطن ، رأيت نفسي أمام عملاق يمثل كل ما تختزنه ذاكرتي من تراكمات الأصالة والعنفوان ، لم تستطع المنافي أن تثني منه العزيمة أو تمحو من ذاكرته المنفية عناوين الأمل .
صبحي غوشة ، بعد ثمانين عاما من عبق الحياة ، وشقاء المنفى ، وحرارة الحلم الدائم بتضاريس اللغة وجاذبية الوطن ، من حقك علينا أن نذكرك بوردة من حديقة منسية على جانب السور المقدس ، أو برتقالة من شمس أريحا ، أو بقطرة ماء من نهر كان في يوم من الأيام على مرمى تفاحة من دروب الأمل .
ومن حقك أن نتوجك بتاج القدس ، ووشاحها الذهبي ، بدل من تقديمه باسم الثقافة إلى من لا يعرفون من القدس سوى حرف القاف ، وإشكاليات حرف السين في زمن الردة والانحدار .
صبحي غوشة ، نرجو منك المعذرة ، نحن الواقفين على حدود الشمس ، لا نملك إلا أن نرسم من عنفوانك حدودا للأمل ، فأنت دائما في القلب ، ولن تكون أبدا على مقاعد الغياب .
نقلا عن صحيفة القدس الفلسطينية