اجتياز اللحظة الخارقة
بقلم :يحيى رباح
المنطقة من حولنا محقونة بالمجازفات الخطيرة جداً، وهذه اللغة العاصفة تخفي تحتها مخاوف حقيقية، حتى إسرائيل نفسها تذهب هذه الأيام إلى اللغة العاصفة نفسها، وإلى المجازفات الخطيرة، وهي لا تملك الحد الأدنى من التأكد من نتائج مجازفاتها الخطيرة، فهي تتجاوز حدود اللعبة في الضفة من خلال ضم المقدسات الإسلامية إلى تراثها اليهودي، كما حدث مع الحرم الإبراهيمي، ومسجد بلال بن رباح، وأسوار مدينة القدس، وكل هذه المواقع هي في قلب و في بؤرة أرض الدولة الفلسطينية، حدود الرابع من حزيران، وهذه المجازفة الإسرائيلية الحمقاء هي أقصى درجات الاستفزاز السياسي وأقصى درجات الاستفزاز الديني في آن واحد، وإسرائيل تعرف بالتفاصيل، أن هذا الاستفزاز الخطير الذي تقوم به عن عمد وسابق إصرار سوف يخلق ردود أفعال لا تقتصر على مستوى القيادة الفلسطينية العاقلة والمتزنة ذات الحسابات المنضبطة، وإنما قد يفتح هذا الاستفزاز الإسرائيلي المتعمد الأبواب أمام ردود أفعال أخرى، فهناك أطراف كثيرة ذات مصلحة تنتظر الفرصة، وفي حالة من هذا النوع، فإن لغة التهدئة لا تفيد، لأنها تصبح غير مفهومة، وخطب المساجد العاقلة لا تفيد لأنها ستبدو وكأنها خارج الواقع.
واستخدام الإدارة الأميركية لمصطلح الاستفزاز في توصيف القرار الإسرائيلي، هو توصيف أقرب إلى الحقيقة، إنه توصيف حركي، لا يكتفي بالوصف، وإنما يوحي بردود الأفعال والتداعيات المحتملة، ومن هنا فإننا نطلب من الإدارة الأميركية حضوراً أكثر ونشاطاً أكثر في هذه المرحلة، لأن شرارة واحدة قد تشعل الحريق!!! و هذه المنطقة في مجملها تنقسم إلى فريقين، فريق إشعال الحريق، و فريق يخاف إشعال الحريق الذي إذا اندلع ولا أحد يعرف أين ينتهي.
حتى هذه اللحظة: فإن إسرائيل كدولة تسجل فشلاً كبيراً على مستوى التصرف بمسؤولية، و هذا الائتلاف الذي يقوده نتنياهو يبدو مثل عربة تندفع إلى منحدر دون كوابح، و أن السائق و هو نتنياهو يستجيب لأصوات التهور أكثر من استجابته لأصوات التعقل، و هو يسهم بهذا السلوك في تبهيت صورة الإدارة الأميركية، و جعلها تبدو في صورة العاجزة عن التأثير، و هو يعطي مصداقية إضافية لجناح المجازفة الآخر في المنطقة، و للحالة الكلامية التصعيدية السائدة، فمن الذي سيستمع إلى صوت السلام، وصوت المفاوضات، و صوت الحوار، ما دام نتنياهو على رأس ائتلافه يفعل ما يفعل في القدس، و في الخليل، و في بيت لحم، و في كل فعاليات الاستيطان الأخرى و خاصة حين يشطح نتنياهو إلى حد إبداء استعداده للذهاب إلى دمشق في حين أن وزير خارجيته “ليبرمان” يقول للسوريين أعطونا الجولان لأنه لازم لنا.
هذه لحظة خارقة في الزمن الفلسطيني و العربي و الإقليمي، لحظة تتضاءل فيها الرتوش و الظلال، و تطل فيها الحقائق بوجهها القبيح، انقسام فلسطيني بدون أي غطاء وطني أو سياسي أو أخلاقي يستمر بمفاعيله و تداعياته المأساوية، و حصار هو النموذج الأقسى و الأقذر، في كل نماذج الحصار التي فرضت في العالم في المئة سنة الأخيرة، فليس هكذا كان الحصار الأميركي لكوبا، أو الحصار للعراق، أو لليبيا، أو للصومال، أو غيرها، إنه نموذج للحصار صممته إسرائيل لتحول حياتنا في قطاع غزة إلى حياة لحظة بلحظة، و بنداً وراء بند، هذا شيء بالغ الخطورة و بعيد المدى، بينما في الضفة فإن الاستيطان الذي هو جزء من النسيج الديني و الفكري و السياسي للحركة الصهيونية يكشف عن كل بشاعته و انحطاطه الإنساني، لأن المحتل، السارق، اللص، المعتدي، يريد أن يمحو ذاكرة المكان، و ذاكرة صاحب المكان، و يحل بدلاً منها أساطيره و هياكله المادية، لأن بقاء الذاكرة الفلسطينية تشكل رعباً على مدار اليوم و الساعة و الدقيقة لهذا المحتل المعتدي، الذي يردد كل أناشيد السلام لكنه يخاف من السلام و يكرهه.
هذه لحظة خارقة: كان يمكن الرد عليها بإنهاء الانقسام، و لكن ثبت بالدليل الساطع أن تورط بعض الفلسطينيين مع الأطراف الإقليمية هو أكبر ما كنا نظن، وأن تغلغل نفوذ الآخرين في نخاعنا الشوكي هو أكبر ما كنا نعتقد، وإلا لماذا يستمر الانقسام مع أنه أهم رصيد لإسرائيل، و أهم خسارة لنا؟
كيف نجتاز اللحظة الخارقة مع وجود الانقسام، مع وجود الحصار، مع وجود الدمار، مع وجود الاستيطان؟ إنه سؤال صعب، باهظ، لا يمكن الحصول عليه بتكرار الكلمات القديمة نفسها، ذلك أن السؤال هو سؤال وجودي على أكثر من صعيد، الصعيد السياسي، و الصعيد الوطني، و الصعيد الإنساني، نريد أن نجتاز هذه اللحظة الخارقة و نبقى أحياء كمشروع وطني، مشروع يستمد حياته من أصوله الوطنية الحقيقية، بان الشعب الفلسطيني موجود، و يستحق دولة، و هذه الدولة يجب أن تقوم، باعتراف و دعم العالم، و ليس أن يظل هذا الشعب الفلسطيني تحت تهديد النكران الإسرائيلي أو تحت تهديد المجازفات و المغامرات الإقليمية.
لهذا السبب: رحبت شخصياً بقرار الجامعة العربية على مستوى وزراء الخارجية، لأن القرار الفلسطيني هو جزء من قرار عربي، و يجب أن يظل القرار العربي موجوداً و لو بحد أدنى، لنصعد به إلى مراحل أعلى، و لكن قبل ذلك و بعده، فإن المعادلة الداخلية الفلسطينية يجب أن تتغير، مهما كلف الأمر، لأن بقاءها على هذه الصورة، هو انتحار ذاتي، نبرئ فيه الأعداء من كل مسؤولية
.