البحث عن الحلقة المفقودة
بقم :يحيى رباح
يتغير زماننا وعلينا أن نتغير معه وإلا نكون خارج وعائه وخارج معادلاته وقوانينه الصارمة، ولكن السؤال الكبير يظل دائماً، كيف نتغير؟ ما هو الثابت وما هو المتغير في منظومة نضالنا الوطني الفلسطيني التي تدور حول هدف واحد رئيسي وهو إعادة تكريس الاعتراف بنا كشعب، له حقوق فوق أرض وطنه التاريخي فلسطين، وأول وأسمى هذه الحقوق إعادة انبعاث الكيانية السياسية الفلسطينية، ممثلة بدولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، دولة لها حدود مهما تكن خصوصية هذه الحدود، ولها ولاية على أرضها، مهما تكن مساحة هذه الأرض، ولها وحدة اتصال مهما يكن شكل هذا الاتصال؟
والشيء الذي تطور عبر نضال يزيد عن ستين سنة، أن هذا الهدف الفلسطيني وهو إقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، أصبح إحدى المفردات الراسخة في القاموس السياسي الدولي، من خلال قرارات الشرعية الدولية التي تنص على هذا الحق كما تنص على بطلان الإجراءات والادعاءات الإسرائيلية التي تجافي هذا الحق.
سواء تعلق الأمر بقرار إسرائيل ضم القدس، أو إجراءات الاستيطان وبناء المستوطنات، أو إقامة الجدار العازل، أو السيطرة على مصادر المياه، أو أي تعديلات من جانب واحد تجريها إسرائيل على الأرض التي تحتلها منذ العام 1967، باعتبار هذه الإجراءات خروجاً عن نصوص القانون الدولي، وقرارات الشرعية الدولية.
ولكن رسوخ الهدف الفلسطيني كإحدى مفردات القاموس السياسي الدولي، يتعدى هذه الحالة الاستاتيكية إلى أفق عملياتي فمثلاً بالرؤى والجهود والمبادرات الدولية، وبالإطارات التي تنشأ لتطبيق هذه الرؤى والجهود والمبادرات، مثل اتفاق أوسلو ومسلسل المفاوضات الطويل في محطاته المتعددة ومثل رؤية الدولتين، وخارطة الطريق، والرباعية الدولية، ومبادرة السلام العربية وغيرها.
فورشة العمل السياسي الواسعة هذه بما استغرقته من سنوات، وجهود، وحوارات، ما كان لها أن تقوم أصلاً لولا الهدف الفلسطيني الذي طرح نفسه تحت سقف الممكن، وهو هدف إقامة الدولة الفلسطينية، بينما السلوك السياسي الإسرائيلي الذي كان دائماً شريكاً أو على صلة بكل عناصر هذه العملية المعقدة الطويلة، كان يسعى دائماً إلى إجهاض هذه الرؤى والجهود والمبادرات، وإحلال حقائق معاكسة بدلاً منها على أرض الواقع، وكانت عملية الإجهاض التي مارستها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تريد بكل العناصر أن تعود إلى نقطة الصفر.
القرار الإسرائيلي الأخير بطرد عشرات الآلاف من الفلسطينيين من أرض الدولة الفلسطينية، يأتي في سياق الفلسفة السياسية الإسرائيلية نفسها، وكأن إسرائيل تعيدنا بضربة واحدة إلى ما قبل قيام السلطة، وإلى ما قبل انسحابها من المدن وتسليمها للسلطة، وإلى ما قبل مناطق ألف وباء وجيم، وإلى ما قبل وجود طرف فلسطيني هو نفسه شريك إسرائيل في العملية السياسية، وهو الذي يدير أمور شعبه، ويتفاوض نيابة عن شعبه، وهو الذي يتعامل معه العالم نيابة عن الشعب الفلسطيني.
القرار صعب التنفيذ، والقرار لا ينفذ بجرة قلم، والقرار سيكون حتماً مجال أخذ ورد على كافة المستويات الوطنية والإقليمية والدولية، والقرار فيه قدر كبير من الرعونة والاستهتار والعدوانية.
ولكنه قرار في غاية الخطورة، لأنه أولاً يدفع باتجاه مواجهة شاملة، فهل إسرائيل تسعى إلى هذه المواجهة الشاملة؟
ولأنه ثانياً، يغير دفة الحديث إلى جهة أخرى معاكسة، فنحن والعالم كله معنا يتحدث مع إسرائيل حول الاستيطان، ووقف هذا الاستيطان كضرورة لإمكانية استئناف المفاوضات، بينما هذا القرار هو هروب مفضوح إلى الأمام، هروب تفجيري إلى الأمام، فهل كلما طلب العالم من إسرائيل خطوة جدية، سترد بنفس هذا المستوى الأرعن والتفجيري والعدواني؟
هذا القرار يشكل نقلة مفاجئة للصراع إلى طور آخر، أشبه بعصيان إسرائيلي ضد القانون الدولي، وضد قرارات الشرعية الدولية، وضد المجتمع الدولي، وضد الحد الأدنى من مصالح الأطراف الأخرى في المنطقة وأولها مصالح الشعب الفلسطيني.
هذه النقلة النوعية المفاجئة لا بد أن تكون وراءها أسباب قوية، حلقات مفقودة، ولابد أن نعرف بصدق وشجاعة ما هي هذه الحلقات المفقودة، هل هو الموقف الأميركي وتراجعه غير المستقر وهل هناك صفقة مع اللوبيات الإسرائيلية في أميركا؟ هل هو المجتمع الدولي الذي يحتشد حول أولويات أخرى وخاصة ما سمي في قمة واشنطن بالإرهاب النووي؟ هل هو الضعف العربي الذي يدخل كل يوم في مسارات جديدة؟ أم أنه الانقسام الفلسطيني الذي توطن أكثر، وتوحش أكثر، وأراح الإسرائيليين من هم كبير؟
بروح خلية الأزمة، بعقلية خلية الأزمة، نريد اليوم من القيادة السياسية الفلسطينية أن تبحث بشكل معمق وجدي كل ما وراء هذا القرار الإسرائيلي، وتداعياته، لكي نضاعف من حجم التوقعات ونبحث عن الخيارات المناسبة.