في يوم النكبة:لا فائدة من الذكرى
بقلم : موسى حوامدة
اليوم، ذكرى النكبة، ليس في الأمر جديدّ: ففي كل عام، وفي 15 أيار منه، يحتفل الإسرائيليون بذكرى قيام (دولتهم)، يرفعون العلم الأزرق والأبيض، العلم الذي يحمل نجمة داود السداسية، وخطين أزرقين يشيران إلى نهري النيل والفرات.
في الجانب الآخر، ستذكر بعض العرب ـ وليس كلهم ـ وبعض الفلسطينيين ـ وليس جميعهم ـ تلك الذكرى، بعض الصحف العربية ، تعيد نشر القصص ذاتها عن اللاجئين ، وعن ذكريات اللجوء ومرارته ، وعمن ما زالوا يحملون مفاتيح بيوتهم ، ويحلمون بالعودة ، تلك العودة التي كانت لأيام معدودة ، ثم تحولت لأعوام ، وربما تتخطى الكثير من السنوات والقرون المقبلة ، ونحن نمارس النمط ذاته ، والطريقة القديمة إياها: نذرف الدموع ، ونتأسف على تلك الأحداث ونطوي الصفحة ، نبحث عن متنفس اجتماعي ، أو ربح اقتصادي ، أو نزوة عابرة ، وطريق مغاير ، يبعد عنا الهموم والآلام ، واستحقاقات واجبة الدفع.
لكن العلم الأبيض يرفرف ، ولا نريد القول إلى أين وصل ، وإلى أين وصلت طموحات رافعيه وغطرستهم ، الذين لا تعنيهم آلام البشر ولم يتوقفوا عند آلام لاجئين ، ولا عند مخيمات ، ولا عند مجازر ، أو حق عودة وقرارات دولية صدرت ولم تطبق ، ولجان عالمية ، وتقارير مؤسسات محترمة لم تجد مناشداتها آذاناً صاغية ، فظلت صراخاً في الهواء ، وحبراً جف ، وكلمات بهتت وتلاشت.
في كتابها “الحرب المقدسة” ، والذي ترجمه للعربية سامي الكعكي ، ترى الكاتبة البريطانية كارين أرمسترنغ أن ما تمارسه إسرائيل اليوم هو استكمال لمسلسل الحروب الصليبية. هي تقول ذلك بعد أن عاشت في فلسطين سنوات وسنوات ، ورأت أن ما تقوم به إسرائيل ضد الفلسطينيين تكرارّ للحروب الصليبية ، وأن ما تبنيه من قلاع ومستوطنات ليس جديداً: فقد سبق للصليبيين أن قاموا ببنائه ، وعلى المرتفعات نفسها ، وبالعقلية عينها.
أما ما نبنيه ـ نحن ـ مقابل إسرائيل ، فليس قلاعاً وحصوناً وقوى ، كما فعل أجدادنا عندما أقاموا هذه القلاع والحصون التي ما زالت شاهدًا حياً في الشوبك والكرك وعجلون ، وحلب والقاهرة ـ حتى في سيناء ، بنى صلاح الدين قلعة ما زالت شاهدة أمامنا.
ما نبنيه ـ نحن ـ ليس أكثر من تمزيق لثقافتنا ومنعتنا ووحدتنا وقوانا: إننا لا نفعل ما تقتضيه الفروسية وما ينبغى للذكرى الأليمة ، ولما تلاها من نكسات وهزائم ، أن تفعل لو أنها أصابت أقل الأمم شأناً. بل إننا ننبش في أوساخنا: نرفع شأن الصغائر ، نكبر الانقسامات والخلافات الهامشية ، ونحن نظن أننا نحمي ثقافتنا وأنفسنا وهويتنا ، ولا نعلم أننا نمزقها شر تمزيق ، نقتتها شر تقتيت ، نمنح فرصة سهلة ومريحة ، ليكتمل الخطان الأزرقان ، ويخترقا القلوب قبل الجغرافيا.
نشتم الصهاينة ، ونعبر عن امتعاضنا وسخطنا منهم ، نشتمهم ونمارس ما يخدم مصلحتهم وخططهم نكرس الثقافة القُطرية والطائفية وثقافة الاستهلاك واحتقار العمل والجدية والتعليم ، ونذهب ، بعيداً ، في أكل بعضًنا لحمَ بعضْ ، وتمزيق كتبنا ، وتفريغ محتوى ثقافتنا من مضامينها.
الحروب الصليبية ـ كما تقول آرمسترنغ ـ ما زالت مستمرة ، منذ أطلق البابا أوربان (أو أوربانوس الثاني) خطبته الشهيرة في المجمع الديني المنعقد في كليرمونت ، جنوب فرنسا ، عام 1095 ، وحتى اليوم ، تمارس هذه الحرب بطرق مختلفة ، وإسرائيل التقطت النظرية من قبل نشوئها. وفي الوقت الذي ذبح فيه اليهود والعرب المسلمون والمسيحيون في القدس ، وفي الوقت الذي طرد فيه العرب واليهود من الأندلس ، تمكنت العقلية الصليبية من خلق صديق جديد يأتمر بأمرها ، وينفذ حروبها ، وهو يظن أنه يحقق حلمه التاريخي في أرض الميعاد ، والنتيجة أنه وقع في المصيدة ، ويسير على هدي من كان يعتبرهم أعداءه الدينيين والتاريخيين حتى وقت قريب.
النكبة ليست ذكرى: إنها حياة نعيشها ، ولكننا نتناسى أننا لم نرمم ذاكرتنا ولم نصلح مما فسد شيئاً ، بل وصلنا إلى مرحلة يقوم كثيرون منا ـ عن فهم أو من دون فهم ـ بتحويل ذكرى النكبة إلى معارك هامشية ، ومناورات بهلوانية «تفقدنا الغاية النبيلة» والبوصلة تجاه العدو الحقيقي.
شاعر فلسطيني / عمّان