رحيل الأنا السامي
بقلم :د.أحمد برقاوي
حين يرحل الثائر ، تخسر الحياة قبساً من روحها، أما حين يرحل ثائر فلسطيني، فإن الحياة تنكس حلمها حداداً، ولا تعلن نهاية حدادها إلا حين تقترب من تحقق الحلم السامي حلم العودة والتحرير.
وسمير غوشه ، واحد من جيل جعل من فلسطين حلمه، ومعنى وجوده، وسمو أناه واحد من جيل فلسطيني آمن حتى الرمق الأخير إيماناً لا يعروه الشك بحتمية انتصاره.
ولأنه كان منتمياً انتماءً كلياً للقضية ، متحداً بأهداف الفلسطيني الحقيقية، فإن عالمه الحق لم يكن إلا عالم الانهمام :سلوكاً وفكراً بالسؤال الأساس : كيف السبيل لتحقيق الحلم الفلسطيني؟
أنه ابن البندقية من جهة وابن الفكر الثوري من جهة ثانية ، بل قل : لم يكن هناك انفصال عند سمير غوشه بين البندقية والفكر.
فالبندقية بلا فكر طلقة عمياء ، والفكر بلا بندقية فكر مجرد طوباوي .
والبندقية رمزاً هي كل عملٍ على الأرض من شأنه أن يعبد الطريق إلى فلسطين .
البندقية رمزاً هي الثورة والانتفاضة هي الجسد المسجون والروح الطليق ، هي السمو والزهد . الفكر رمزاً هو الإيمان الحقيقي بالقضية ، هو البحث عن الأساس النظري للنضال ، هو المعرفة التي تصب في فهم شروط الكفاح وانتصاره .
وسمير واحد من أولئك الذين توافروا على سمتين أساسيتين من سمات الثائر المثقف : الزهد والمعرفة .
أجل : سمير مثقف ثائر وثائر مثقف . عفيفاً كان، لم يسمح للسلطة عنده أن تكون طريقاً للثروة، ولا الثورة طريقاً لتحقيق مصالح فردية. وهذا لعمري معنى الأنا السامي حين يتوحد بقضية عادلة. إذ لا مجال للفصل بين القوة الأخلاقية والقوة الثورية، والثوري أخلاقي بالضرورة ، لأنه يجعل من ذاته مثلاً للسلوك المستقيم والمنسجم مع سمو القضية. إذ لايمكن لإنسان أن يحمل على كتفيه قضية سامية وسلوكه وضيع .
عرفت سمير أخاً وصديقاً، كان رائع التواضع ، وشديد الكبرياء . قلبه كان نضراً محباً ، لم تغادر قسمات وجهه تلك البسمة الدالة على الود .
رحل سمير هذا الأنا السامي وترك خلفه سميراً الذي تحتفظ به ذاكرة الشعب العربي الفلسطيني ثائراً حاملاً شعلة الكفاح ، وكأني به لا يكف روحه من النداء : لا تطفئوا شعلة الكفاح ولا تنزلوها من أياديكم . كأني بروحه تصرخ فينا : اختلفوا كما شئتم ولكن لا تأكلوا لحم بعضكم البعض .