الرجل الذي عاش أبداً
بقلم الرفيق :ابوجمال طارق
هي الذكرى الثالثة والأربعون لانطلاقة جبهة النضال الشعبي الفلسطيني الذي يغيب عنها للمرة الأولى مؤسسها وراعي مسيرتها النضالية بذل ما فيها من جهد وعرق ودم وصلابة وأصالة، بكل ما فيها من فخر واعتزاز.
غاب الدكتور سمير غوشه عن المناسبة ولم يحتل جسده الطويل ” العملاق” مقعده في اجتماعات المكتب السياسي ، للتحضير لهذه المناسبة النضالية العزيزة على قلبك وقلوب أعضاء الجبهة وأنصارها وأصدقائها وفي مقدمتهم منظمة التحرير الفلسطينية وفصائل العمل الوطني الفلسطيني.
لم يقف أمام الجماهير التي جاءت من المحافظات والمدن والمخيمات والبلدات والقرى، لتستمع لرؤية الجبهة السياسية وتحليلها للمشهد الفلسطيني الراهن والمهام الوطنية الملقاة على عاتق مناضليها للنهوض بالوضع العام الفلسطيني الى جانب الكل الفلسطيني منظمة تحرير، سلطة وطنية، فصائل العمل الوطني، منظمات المجتمع المدني….الخ .
كان في مثل هذه المناسبة وكعادته دائما يواصل العمل ليل نهار ، يتابع دوائر عمل الجبهة المركزية وفروعها ولجانها، لا يترك شاردة أو واردة دون التدقيق بها.
غاب القائد الملهم ، غاب الرمز الوطني الكبير لأول مرة منذ ما يزيد على ثلاثة و أربعون عاما قضاها مناضلاً صلباً قائداً مقداماً سياسياً فذاً، صاحب رؤية ثاقبة.
غاب الفارس، فارس القدس بل فارس فلسطين كل فلسطين.
نعم أبا ماهر غبت عن هذه المناسبة وكنت تفخر بها، كنت تفخر بأن أصبح عمر رفاقك ، رفاق دربك في كل سنة يزداد سنة.
نعم غبت جسداً لكنك تعيش فينا أبداً، فأنت الرجل الذي عاش فينا ابداً، أنت مغروس فينا في فكرنا في بنائنا التنظيمي في سلوكنا اليومي في تواضعنا ونكران الذات وفي شموخنا وعنفواننا الذي تعلمناه منك خلال مسيرتنا النضالية معأ .
من البدايات وقد كنت في ريعان شبابك كان همك الاول كيف نخدم قضيتنا الفلسطينية ،ما هي أفضل الوسائل والسبل لخدمة جماهير شعبنا الفلسطيني في الوصول إلى أهدافه في العودة وتقرير المصير واقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس، كان هدف الحرية والاستقلال لا يفارقك ابدا.ً
فقد كنت فلسطينياً. وكنت قومياً عربيا، وكنت مثقفأ اممياً.
فقد حفرت مجرأ ايدلوجياً وسياسياً للجبهة نسترشد به ونستشرف المستقبل من خلاله.
كنت حريصاً على التمسك بالثوابت الفلسطينية، ارضعتنا الحقوق الوطنية الثابة للشعب الفلسطيني. اكدت علينا أن التكتيك يجب أن يكون في خدمة الاستراتيجية واطلقت مبدأ الحزم في الاستراتيجية والمورنة في التكتيك.
كنت وحدوياً تأمن بوحدة فصائل العمل الوطني الفلسطيني فساهمت بأن تأخذ الجبهة موقعها وتشارك في تشكيل اول اطار وتنسيقي بين الفصائل الفلسطينية وكان في الأردن عام 1970اطلق علية اسم الكفاح المسلح الفلسطيني.
ولم تغب الجبهة بقيادتك عن كافة الصيغ الوحدوية أاو التحالفية أو حتى التنسيقية ، فقد كنت ملتزماً بفلسطينيتك وبادرت بالعمل مع الفصائل الفلسطينية التي كانت الجبهة ترى تقاطعاً سياسيا معها في اللحظة السياسية الراهنة ومدى تأثير تلك السياسة على القضية الفلسطينية.
وبخاصة اثر تبني المجلس الوطني الفلسطيني برنامج النقاط العشر، التي رأت الجبهة بقيادتكم في هذا البرنامج تراجعاً صريحاً وخروجاً واضحاً عن الإجماع الوطني الفلسطيني، في تلك اللحظة السياسية أعلنتم عن انخراط الجبهة في قيادة تحالف القوى الفلسطينية المناهضة للحلول الاستسلامية. ” جبهة الرفض”.
وعندما أعلن الرئيس المصر انور السادات عن نيته لزيارة إسرائيل وإلقاء كلمة في الكنيست الإسرائيلي يدعو فيها الى انهاء الصراع بين إسرائيل ومصر وتوقيع اتفاقية سلام معها، تحركت الساحة الفلسطينية مرة اخرى باتجاه لم الشمل الفلسطيني وكانت اجتماعات طرابلس الغرب واللقاءات المكثفة مع القيادة الليبية لإقناعها باستضافة كافة الفصائل الفلسطينية بما فيها حركة فتح المتهمة دوماً بالتفرد بالقرار الفلسطيني لعقد لقاء لتدارس دعوة السادات على الصعيد الفلسطيني وكذلك دور الدول العربية الرافضة لدعوة السادات.
كنت أيها الفارس من أبرز الفاعلين في اللقاءات الفلسطينية التي عقدت لهذه الغاية بحضور جميع قيادات الفصائل بما فيهم الجبهة الديمقراطية ممثلة بامينها العام الرفيق نايف حواتمة،وحضور حركة فتح ممثلة بالشهيد المرحوم أبو اياد.
انتهت الاجتماعات وصدر عنها بيان تاريخيا يعيد اللحمة الى منظمة التحرير الفلسطينية وينهي عملياً ودون اعلان اية صيغ تحالفية خارجة عن الاجماع الوطيني الفلسطيني ويعيد الجميع الى حاضنته الأساسية منظمة التحرير الفلسطينية.
وكنت أيها الفارس من قد اطلق على الاتفاق وثيقة طرابلس، وكتبتها في مقدمة الصفحة الاولى بخط يدك.
وفي ضوء نتائج الاجتياح الاسرائلي للبنان وخروج المقاومة الفلسطينية من لبنان بعد صمود اذهل العدو استمر اثنان وثمانون يوماً، والتقاط الفصائل انفاسها فقد شرع كل فصيل على حدة بتقييم اوضاعة واستخلاص الدروس والعبر من تجربة الاجتياح ونتائجه ومحاسبة اوضاعه الداخلية واتخاذ الاجراءات اللازمة ، حدث الانشقاق الفتحاوي وكل فريق تبنى نهجاً سياسياً خاصاً به مما عكس نفسه على الساحة الفلسطينية عموماً، و حيث كان الانقسام عميقاً هذه المرة.تبلور في الساحة الفلسطينية التالف الوطني الذي ضم صفوفة جبهة النضال والتالف الديمقراطي ، وبهذا انقسمت الساحة الفلسطينية مرة اخري.
وعندما تعرضت الجبهة بقيادتك ايها الفارس الرمز للمضايقة في الساحة السورية التي اخترت بمحض ارادتك الحرة أن تكون مقر قيادتك بعد لبنان، كنت شفافاً وصارحت الجماهير الفلسطينية بذلك ودافعت عن القرار الفلسطيني المستقل، وانحرت الى صفوف الشعب وتمسكت بالدفاع عن القرار الفلسطيني المستقل ، عبرت وانت اصدق من يعبر عن وجدان رفاقك واطلقت الصرخة مدوية . سندافع عن قرارنا الفلسطيني المستقل لو علقونا على اعواد المشانق في المرجة، او وضعونا في غياهب السجون في المزة.
غرد سربُ من الرفاق خارج السرب،فغادروا الزمان والمكان وبقيت شامخاً شموخ جبل الطور.
كنت تري في مفاوضات التسوية السياسية التي اطلق بوش الاب اسسها ودعا العرب واسرائيل الى المفاوضات بشأنها وكادت منظمة التحرير ان تغييب عنها، انها معركة سياسية كبرى على منظمة التحرير ان لاتغيب عنها.
لم تلن لك قناة وتصديت بالمقابل للاغراءات والضغوطات ورفضت وثيقة اسلو واعلنت في اجتماع المجلس المركزي الفلسطيني الذي عقد في تونس انذاك للمصادقة على تلك الوثيقة المشؤومة اننا في جبهة النضال متحفظون على هذه الوثيقة ولكنا ملتزمون بالبقاء في منظمة التحير الفلسطينية،وبقيت عضوا ممثلاً للجبهة في لجنتها التنفيذية.
وعلى صعيد اخر فقد تبنت الجبهة بقيادتك أسلوب حرب التحرير الشعبية طويلة المدى والكفاح الشعبي المسلح كأرقى شكل من أشكال النضال والكفاح ضد العدو.
لقد كان اهتمامك وجهدك بارزا حيث ساهمت بشكل كبير في تهيئة الظروف لتقوم الجبهة بدورها في الكفاح المسلح ضد العدو، من حيث الأعداد والتدريب والتسليح، فقد امتلكت الجبهة في مرحلة من مراحل نضالها، وحسب الظروف التاريخية ” الموضوعية والذاتية” في تلك المرحلة من امتلاك، صنوف مختلفة من السلاح بدءاً من السلاح الفردي الخفيف وصولاً إلى الأسلحة الثقيلة من صنوف عديدة منها الهاونات من عيارات مختلفة من 60 ملم إلى 120ملم. وكذلك الأسلحة المضادة للدبابات مثل “ب7 ب10” وصواريخ الكاتيوشا والجراد وصولا إلى راجمات الصواريخ.
انتهجت الجبهة بقيادتك هذا الأسلوب وقام الرفاق في العديد من العمليات العسكرية داخل الأرض المحتلة. كما كانت الجبهة دائما إلى جانب فصائل العمل الوطني في الدفاع عن الشعب الفلسطيني والثورة وعلى كافة الجبهات.
فقد خاضت الجبهة معارك الدفاع عن شعبنا في المخيمات الفلسطينية في لبنان وقبلها في التصدي البطولي للاجتياحات الإسرائيلية للأراضي اللبنانية،سواءً اجتياح 1978 أو الاجتياح الكبير عام 1982، وكان للجبهة نيل العديد من رفاقنا شرف الاستشهاد على أرض فلسطين ولبنان والأردن.
اشرفت أيها القائد أيها الرمز بنفسك على إعداد وتدريب الرفاق من الأرض المحتلة في أساليب مقاومة الاحتلال وإيقاع أكبر الخسائر في ضفوفه، فكنت لا تنام الليل وأنت إلى جانب المدربين وهم يعملون خلايا الداخل على التصنيع الشعبي للمتفجرات.
قد كان للجبهة في الداخل دوراً هاماً ورئيسياً في القيام بعمليات من هذا النوع، وأذكر أنه في مرحلة كان البعض يقول إن شارع يافا وشارع محن يهودا في القدس المحتلة من اختصاص الرفاق في الداخل لتنوع أساليب الرفاق في مقارعة جيش الاحتلال، وزراعة هذه الأنواع من المتفجرات في تلك المنطقة.
وكانت الجبهة قد مارست الكفاح المسلح بأشكال عديدة منها أسلوب خطف الطائرات، والعمليات الاستشهادية التي كانت تسمى العمليات الانتحارية، وغيرها الكثير من الأساليب التي نحن لسنا في معرض ذكرها، إلا للدلالة على دورك أيها الفارس في وضع الجبهة في مقدمة صفوف العطاء.
ولا أغفل أنك كنت تؤكد لنا في الاجتماعات القيادية والمركزية، وكذلك في أدبيات الجبهة أن الكفاح المسلح هو الشكل الأرقى في النضال والصراع ضد العدو، ولم تقل أنه الشكل الوحيد للنضال، وعندما كان أحدنا يخطأ التعبير ويقول أنه الشكل الوحيد كنت تصحح وتقول أنه الأرقى وليس الوحيد لإيمانك بشعبك وقدرته على ابتداع الوسائل والاساليب المتعددة في مقارعة وصراع الاحتلال تبعا للظروف السياسية المعاشة.
كنت أيها الفارس مؤمنا بالنضال الاجتماعي، وبغض النظر عن أدبيات الجبهة إلا أنك كنت لاتفوف فرصة إلا وأوحيت لنا بالانخراط في صفوف الجماهير وتؤكد لنا كيف نتعلم حبها.
فقد جاء في أدبياتنا ما يؤكد على حب الجماهير والتعلم منها، لا أخفي أنك كنت فعلاً مؤمنا بذلك وكنا نحن رفاقك ننظر إليك بنوع الاستغراب وأنت تقضي وقتا في الحديث والحوار مع بعض الجيران أفراد من الشعب كبار السن ” ختايرة”، أذكر منهم أبو خميس جار مكتبنا في مخيم شاتيلا، وأبو محمد العاص صياد السمك في صيدا جنوب لبنان وقد أصبح عضواً بل قائدا نقابيا في صفوف الجبهة، وأبو خليل حازم الجنوب لبناني وأصبح عضواً قيادياً في الجبهة، وأبو محمد السباح الذي كان يسكن في المدينة القديمة في العاصمة الليبية طرابلس. وأبو محمد هزاع الفلاح الفلسطيني الصلب الذي كان يسكن في جبل ركن الدين في العاصمة السورية دمشق. وغيرها الكثير الكثير من كبار السن .
أذكر هذه الأسماء لعلمي بوفاتهم رحمهم الله جميعا، فقد كنت توحي إلينا كيف نحب الجماهير، كيف نتعلم منهم وكيف نقودها، فأنت لم تألو جهداً في بناء مؤسسات الجبهة كافة وإن كنت تبذل الجهد الأكبر لدائرتين أساسيتين. العمل النقابي والجماهيري والإعلام.
يذكر فاقك تماما كيف تم بناء النقابات المهنية في الجبهة وماهي الجهود الكبيرة التي بذلتها في بناءها، لا أريد أن اذكر كيف نهضت لجان المرأة وأصبح دورها رئسياً في إطار الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية، واذكر هنا بعض الأسماء من الرفيقات اللواتي عندهن القدرة للحديث عن ذلك، منهن الرفيقة ثريا، الرفيقة منى جابر، والرفيقة سحر رفيقة دربك وشريكة حياتك، الرفيقة ليلى النملة، الرفيقة أم حازم وغيرهن من الرفيقات، ولكني في هذا الصدد أردت أن أعرج على لجنة مهمة من لجان العمل النقابي وهي اللجنة الفنية، تلك اللجنة التي تستحق دائما حضورها في كل مناسبة يذكر بها العمل النقابي، تلك اللجنة التي شكلت فرقة الدبكة الشعبية الفلسطينية، وكنت أيها الفارس توليها اهتماما خاصا، فرقة النضال للفنون الشعبية .
أنت أيها الفارس لم تنسى الرفيق المرحوم الشاعر أحمد صافي، ولا الملحن أحمد شوري، دبكاتهم ومساهماتهم في مناسبات عديدة ودول عديدة تشهد لهم بالعطاء.
جبهة النضال سيري للأمام وأصنعي من ليلنا فجر الأنام.
وكذلك ولله و شفتك يا علمي …..زينة رايات الأمم.
وغيرها من النصوص التي ستبقى في ذاكرة التاريخ إن لم يعيد رفاقك إعادة إحيائها، كنا نتغنى بها… كنا نحبها.
أما الإعلام أيها الفارس القائد المعلم الملهم فله قصة اخرى، أتذكر عندما أردت أن تتحول نشرة النضال الشعبي الى مجلة نضال الشعب مجلة تعبوية سياسية ثقافية متنوعة، أتذكر كيف كنت أنت وأنا نتعلم من المخرج الصحفي محمود الداورجي،كيف نقص الحرف ونتعلم الإخراج الصحفي، وكان مكتب الإعلام لا يتسع لأكثر من طاولة مكتب وكرسي واحد، أتذكر كيف كنا نواصل الليل بالنهار من اجل إظهار مجلة نضال الشعب ووضعها بين ايدي الرفاق والاصدقاء حتى وصل تطور المجلة لأن تكون بغلاف أربعة ألوان تصدر اسبوعياوتستقطب اهم اصحاب الرأي فلسطينين وعرب واصبح للإعلام مكتب خاص به يحتوي على عدة قاعات وغرف.
أردت الإشارة إلى الإعلام والعمل النقابي ولم اذكر تفاصيل عمل الإعلام وأهميته واهتماماته، فهذا بحث كبير
بحاجة إلى مناسبة أخرى، وكذلك العمل النقابي بلجانه المختلفة من طلاب وعمال ومرأه ومهندسين ومعلمين…….الخ، ينطبق عليه ما ينطبق على الإعلام.
لقد أوصلتنا ايها الفارس إلى المكان الذي كنا ننشد وفي الزمان الذي كان يجب أن يكون، وإن كنا ولا نزال نمارس الصراع في مقدمة صفوف منظمة التحرير الفلسطينية، نمارس العمل السياسي والجماهيري بين صفوف شعبنا وعلى أرضنا الفلسطينية.
تركت لنا إرثاً مهماً ورئيسياً وعميقاً وكنت مرشدنا ودليل عملنا انغرست فينا….تجاوزنا محنة غياب جسدك…سيتابع رفاقك…ابناؤك مسيرتك… فأنت حيا وعلى رأس المكتب السياسي… واللجنة المركزية، أنت حيا في عقل ونهج وممارسة رفاقك اللذين أحبوك فارساً قائداً ملهماً ومعلماً.
العزاء كل العزاء ان رفاقك على الدرب سائرون. حاملي راية الجبهة مكملي مشوارك نحو الحرية والاستقلال.