وداعا أيها القائد النقابي العربي .. وداعا أيها الفارس الأصيل .. وداعا حسن جمام
بقلم : ماجد كيالي
فجأة ، ومن دون وداع ، وبصمت مريع ، اثر حسن جمام أن يرحل عن دنيانا ، ذات ليلة ، إذ توقف قلبه عن الخفقان ، وحيدا… وحيدا… وكم كانت لحظة صعبة ، ومفعمة بالحزن ، تلك التي فتحنا فيها الباب ورأيناه فيها مسجى على الأرض…
قبل يومين فقط من رحيله ، شاء القدر أن نلتقي في منزله على فنجان قهوة ( بعد عودتي من سفرة طويلة خارج سورية ) ، حيث بث لي بعضا من شجونه ، وهمومه ، بصراحته المعروفة…
في هذا اللقاء حدثني عن تخوفه على مصير المنظمة ( الاتحاد الدولي لنقابات العمال العرب ) ، التي تبوأ فيها موقع الأمين العام لمدة عقدين من الزمن ، وأعطاها أجمل سني عمره ، ومنحها من وقته أكثر مما منح عائلته ، وأعطاها من روحه أكثر مما أعطى جسده…
لقد كان جمام حزينا ومتألما من شعوره بانعدام المسؤولية النقابية والأخلاقية في إدارة الاتحاد ، بعد مغادرته له… إذ بدا له أن يتجه نحو مسارات مجهولة ، في غير الوجهة التي حاول إرسائها عليه طوال العقدين الماضيين ، والتي تتضمن تكريس المؤسسية والديمقراطية والروح النقابية المسؤولة في عمل الاتحاد ، رغم كل الصعوبات والثغرات التي كانت تقف في وجه كل ذلك.
وكان جمام متألما أكثر لواقع أن المنظمة النقابية العربية ، التي يفترض إنها تدافع عن حقوق العمال ، هي بالذات من يقوم بالتنكيل ببعض العاملين فيها ، إلى درجة فصلهم من العمل(!)، لحسابات شخصية ضيقة ، رغم أن هؤلاء خدموا هذه المنظمة بثقافتهم وخبراتهم وإخلاصهم…
ويمكن لي أن اشهد ، في هذا المجال ، بأن جمام ، في سيرته كأمين عام ، كان حريصا على زملائه في الأمانة العامة ، وعلى العاملين في الاتحاد ، وكان يتعامل معهم بروح مرنة ، وبأخلاقية عالية ، رغم كل ما يبدر منهم من تصرفات يراها غير لائقة ، أو من أخطاء قد تضر بالعمل… بل إنه كان يقف في صف العاملين حين يشعر أن ثمة نكران لجهدهم ، وتحامل عليهم من قبل بعض أعضاء الأمانة العامة ، وكان يأبى أن تكون المنظمة النقابية ” رب عمل ” ظالم أو سيء.
ويمكن لي أن أشهد ، أيضا، بأن جمام وإن كان سريع الغضب أحيانا ، لشعوره انه صاحب البيت ، أو صاحب المشروع ، إلا انه كان أيضا سريع الرضى ، لم يحمل لحظة في قلبه ضغينة لأحد ، لا لموظف ولا لعضو أمانة عامة ، وبهذا المعنى فقد كان بالفعل إداريا مسؤولا ، فضلا عن انه قائد نقابي قومي من طراز نادر.
وعن كونه قائدا نقابيا من طراز نادر يمكن التحدث بالكثير ، وهو في مواقفه ، في المنابر الوطنية والعربية والدولية لا يحتاج لتعريف ، فقد كان جمام مسكونا بمكانته كقائد نقابي عربي ، يدافع عن وحدة الحركة النقابية العربية وعن مكانتها. وكان مسكونا بالدفاع عن قضايا العمال وحقوقهم ومصالحهم الاقتصادية والاجتماعية. وكانت الحقوق والحريات النقابية العربية العنوان الأثير الذي يتناوله رغم كل الأثمان والاكلاف التي واجهها ، وضمن ذلك محاولة محاصرته ، وعدم تمكينه من المنافسة على موقع الأمين العام لمنظمة العمل العربية ( قبل سنوات )؛ رغم أن عديد من القادة النقابيين ، الذين انقلبوا عليه في الظل ، كانوا اقسموا له الوعود على دعمهم له ، وعلى أنه هو مرشح الحركة النقابية العربية ، وليس مرشح دولة الجزائر فقط!
ويبدو أن جمام في كل ذلك دفع ثمن عناده ، وصدقه ، وإصراره ، على مواقفه النقابية والقومية ، وهو الذي ظل يردد بأن الحركة النقابية الحقيقية هي تلك الحركة التي تتأسس على معايير الاستقلالية، والوحدة، والارتباط بمصالح العمال ، والديمقراطية الداخلية … إلى درجة أن هذه المعايير باتت بمثابة وصية منه ، أو خطة عمل ، لمختلف المنظمات النقابية العربية…
حقا لقد تأثر جمام كثيرا من جحود بعض زملائه في الحركة النقابية العربية ، ومن حال النكران ، وعدم الوفاء ، التي أحس بها بعد خروجه من موقعه كأمين عام للاتحاد ، وكان يقول أن الأمر لا يتعلق بي فقط بقدر ما يتعلق بمصير هذه الحركة النقابية العربية ، التي تحتاج حقا إلى قواعد مؤسسية وقانونية وأخلاقية لترسيخ ذاتها ، بعيدا عن المهاترات والمصالح الشخصية والعقليات المزاجية المضرة.
لذا ينبغي أن اشهد وللحقيقة ، أيضا، بأن جمام لم يكن متأثرا لمغادرته موقع الأمانة العامة ، فقد كان ، في دورته الانتخابية الأخيرة ، زاهد بموقعه ، وكان يمهد لمغادرته ، إذ لم يعد جسده يطاوعه ، ولم يعد قلبه يتحمل ما يتحمله من هموم ، ولم تعد أسرته ترغب بابتعاده عنها ، وكان جمام اقر بكل ذلك ، وصارح برغبته بالمغادرة للجميع ، واعد للمؤتمر عدته من اجل ذلك .. ولكن شاءت الظروف ، والمهاترات الضيقة ، وانعدام المسؤولية عند البعض ، والمصالح عند البعض الأخر، أن تتم الأمور بالطريقة السلبية التي تمت فيها … وهو ما تألم له حقا…
على أية حال ينبغي أن يذكر لجمام انه أرسى نوعا من الروح المؤسسية في عمل الاتحاد ، وانه عمل على تكريس الديمقراطية الداخلية في عمله ، ففي عهده انتظم اجتماع المجلس المركزي ، وفي عهده تم تكريس دور اللجان الدستورية والاستشارية ، وفي عهده ارتقى الخطاب النقابي للحركة النقابية العربية ، بحيث لم يعد مجرد خطاب إنشائي ، وإنما خطاب له ميزاته ، ومعانيه …
في عهد جمام أيضا تكرست استقلالية الاتحاد الدولي لنقابات العمال العرب ، بعيدا عن توظيفات الحكومات المتضاربة ، وأهواء السياسات المتقلبة ، وتكرس كمنظمة نقابية قومية معنية بوحدة العمال العرب ، والدفاع عن حقوقهم ، وعن مصالحهم ، في الأطر الوطنية والقومية ، وكم دفع جمام ثمنا لذلك؟
على ذلك ، فإن المنابر العربية والدولية ستفتقد ، على الأرجح ، صوت جمام ، هذا القائد النقابي العربي الجزائري .. هذا الفارس الأصيل ، الذي حمل لعقدين من الزمن هموم العمال وقضاياهم النقابية والقومية .. ستفتقد هذه المنابر صوته الجهوري ، ووقفته الشجاعة … ولعلهم في افتقادهم هذا سيتذكرونه ، ويتذكرون معه مواقفه الصادقة التي كانت تؤرق البعض وتستفزهم..
وعودة إلى لقائي الأخير مع جمام ، فقد كان في هذا اللقاء الحميمي ، رغم همومه وشجونه ، في غاية الراحة ، والهدوء ، إذ حدثني عن أحوال عائلته ، وبالخصوص عن أولاده منى وزين ونضال وسناء .. وفي هذا اللقاء حدثني أيضا عن نيته التفرغ لكتابة شهادته عن تجربته في الحركة النقابية العربية ، التي شغل فيها موقع الأمين العام للاتحاد الدولي لنقابات العمال العرب ، طوال عقدين من الزمن ، وعليه فقد كنا تواعدنا أن نلتقي سويا ، مع صديقنا فاروق في منزلي ، الأحد، لنتابع الحديث ، وهو الموعد الذي لن يتحقق … إذ رحل جمام ليلة يوم الثلاثاء …
جمام … لا استطيع أن أفيك ما تستحقه بالكلمات .. فتحية محبة وتقدير لك … ولعائلتك الجميلة ، لزوجتك ورفيقة عمرك ” أم زين ” التي تحملت بعادك عنها ، وحملت همومك .. لأولادك المحبين والرائعين منى وزين ونضال وسناء .. لرفاقك الذين عرفوك ، فأحبوك وآزروك… لكل هؤلاء الصبر والسلوان …
طوبى لك يا جمام في مثواك الأخير… طوبى لسيرتك النضالية الطاهرة…
كاتب وباحث فلسطيني يقيم في دمشق. – mkayali@scs-net.org