الخيار الثالث وارد وإن بهظ الثمن
بقلم : عايدة توما
من الواضح للجميع أن المارد العربي الذي خرج من القمقم، في الأشهر الأخيرة ، لن يعود إليه ولن يتراجع عن مطالبه الشرعية في حق الشعوب العربية كافة بالحياة الكريمة ، بدون قمع وإذلال ، حقها في كسب لقمة العيش وتقاسم خيرات بلادها بشكل عادل ، وحق هذه الشعوب بالديمقراطية التي تعيد للشعب ذاته حق تقرير مصيرها وانتخاب حكوماتها وشكل أنظمتها .
لقد خطت الثورات العربية الخطوط الأولى في رسم هذا الواقع العربي الجديد، ورغم الميل الشعبي إلى الرومانسية الثورية في التعامل مع مجمل التحركات الشعبية في العالم العربي بالطريقة ذاتها ورسم حدود هذه التحركات بالمثالية المطلقة المتمثلة بالمقولات العامة والتي نؤيدها تماما ” إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر ” وأن ” الشعوب إذا هبت فستنتصر” ، إلا أن الواقعية السياسية والتحليل الماركسي العلمي يحتم علينا الخروج من خانة الاوتوبيا أو الرومانسية واستقراء الوضع السياسي المختلف في كل قطر عربي وتعامل القوى الأجنبية وتحديدا ، قوى الامبريالية وأذنابها في المنطقة وتعاطيها مع هذه التحركات الشعبية أو الثورات وفقا لمصالحها واحتياجاتها في المنطقة ، كما يتحتم علينا التعاطي وبشكل واقعي مع عامل أخر مهم وهو طبيعة القوى المنضوية تحت لواء هذه الثورات ، الشعبية منها والحزبية أو الحركات السياسية وتفاعلها مع الأحداث ومطالبها المطروحة في هذا الحراك ، بالإضافة إلى ارتباطاتها الخارجية والداخلية وتساوقها مع المطالب الشعبية .
ورغم كل ما ذكر أنفا ، إلا أن المبادئ الأساس التي لا تقبل التأويل أو التفسير، أن الموقف اليساري الشيوعي الثوري يحتم أولا، وقبل كل شيء، نصرة حق الشعوب والتضامن مع هباتها الشرعية في وجه الظلم والاستبداد والنهب الذي عانت منه مجمل الشعوب العربية، وأن كان بنسب متفاوتة ، وتثبيت هذا الحق .
ومن هنا فإن لا نقاش حول حق الشعب المصري والتونسي واليمني والبحريني والسوري وجميع الشعوب العربية في الثورة على الأنظمة القامعة والمستبدة التي حكمتها أو ما زالت حتى اليوم .
أن ما يحدث في مصر الثورة وتونس أيضا يؤكد أن هذه الثورات لم تنته بعد ، صحيح أنها تمكنت من الإطاحة برأس الهرم والمربع الصغير حوله من أعوان ومتنفذين ، إلا أن قلع جذور هذا النظام المتأصلة في دوائر المجتمع المختلفة من نظام الحكم وهيكليته وبنود الدستور وقوات الجيش المتنفذة التي اكتسبت قوة جديدة في انتصارها للجماهير الشعبية منذ الأسابيع الأولى للثورة ، مما جعلها صاحبة نفوذ لا يستهان به في الفترة الانتقالية ما بين الثورة الشعبية والمأسسة لهذه الثورة في وضع أسس النظام الجديد ، هو أمر لم يتم حتى الآن وما زالت هذه الثورات المباركة تتعارك وتتصارع معه ومع قوى الردة والقوى الامبريالية التي تحاول اقتناص الثورة في فخ الثورة المضادة ويبقى التعويل كما ذكرنا سابقا على أن هذا المارد الشعبي الذي ثار سيحمي الثورة ومنجزاتها .
و من منطلق الاحتكام إلى تحليل العوامل المختلفة المتداخلة في كل تحرك شعبي ، لا يمكن التعاطي مع ما يجري في سوريا بمبدأ الرومانسية الثورية فقط، دون النظر إلى العوامل الأخرى المتصارعة والتي بدأت بوادر امتطائها للتحرك الشعبي العفوي الاولي تظهر بوضوح .
ورغم الوعي الكامل إلى أن المصالح الامبريالية المرسومة في دهاليز الإدارة الأمريكية والمتساوقين معها من دول أوروبية ونظم عربية، ما زالت تجثم على صدور شعوبها في المنطقة ، لن تركن ساكنة في هذه الفرصة التاريخية التي تتيح لها محاولة رسم حدود الخارطة الجديدة للشرق الأوسط . وسيكون من السذاجة أن لا نتعاطى مع هذا المعطى الهام الذي يتمثل في مجموعة من الحقائق من ضمنها التصريحات الرسمية لإدارة براك أوباما وشروطه على نظام بشار الأسد ، كما وردت على لسان وزيرة خارجيته ، هيلاري كلينتون ، والدور الذي تلعبه تركيا في المعادلة انطلاقا من رغبة حكومة وحزب طيب اردوغان بإعادة تركيا إلى دور اللاعب المركزي في المنطقة والمسوق للسياسة الأمريكية بتقديم الجزرة حينا والعصا حينا أخرى .
إن التحرك الشعبي الذي انطلق في سوريا كانت بواكيره تظاهرة يساريين من نشطاء، يشهد لهم تاريخهم بالنشاط الشعبي ضد مجمل مظاهر القمع وتحديد الحريات في سوريا، ممن قبعوا مرارا في أقبية الاعتقالات وتعرضوا للملاحقات مرارا، أصحاب مواقف يسارية وطنية لا يشك بهم، عندما تظاهروا في دمشق مطالبين بإطلاق سراح زملائهم من المعتقلين السياسيين فتعرضوا هم بذاتهم للاعتقال والمطاردة والتخوين .
وتتالت التظاهرات، لتتجاوز النخب وتكتسب مدا شعبيا، مطالبا برفع الظلم رافعا شعار ” الشعب السوري ما بنذل” و” واحد واحد واحد ..الشعب السوري واحد “، وكان المطلب الأساس إجراء الإصلاحات ورفع نظام الطوارئ وتغيير البند الثامن في الدستور والذي يمأسس لحكم حزب البعث وحده دون غيره .
فأين حدث الانعطاف؟ ولماذا كان الرد في تلك المرحلة من قبل النظام، قمع لهذه المظاهرات وإطلاق نار حي على المتظاهرين واعتقال الآلاف، ورغم الإعلان عن إلغاء قانون الطوارئ خرجت الدبابات إلى الشوارع وأطلقت النيران.
ورغم الإعلان عن تشكيل لجنة حوار وطني، اتضح أن عضويتها كانت رموز حاليين من حزب البعث، مندوب واحد عن الحزب الشيوعي السوري وسفراء ووزراء سابقين بمعنى آخر بقيت اللجنة تدور في فلك الحزب الحاكم وفردانيته .
كل ذلك رافقه تصعيد خطير على أرض الواقع من قتل وتدمير وتهجير وتهم متبادلة بين النظام وبين قوى المعارضة .قد يكون هناك أيضا بين قوى المعارضة، مثل أي ثورة، مندسين بأجندات مشكوك بأمرها ، وارتباطاتهم مشبوهة، يقدمون خدمة، من حيث يدرون أو لا يدرون، إلى أعداء الهبة وأعداء الشعب السوري كله، ولكن تبقى الأسئلة التي تحوم في أذهان الكثيرين ، أن كانت رواية النظام حقيقية فلم لا يفتح النظام أبواب سوريا للإعلام ، ولن نقول الحر، وإنما الإعلام بكل أطيافه لنشر الحقيقة عما يجري ؟
والسؤال الأخر الذي ما زال يطرق العقول وبعنف ، لماذا يجب أن يكون خيار الشعب السوري في هذه المعادلة واحد من أمرين : أما نظام قمعي متسلط، ودكتاتورية بائسة لعائلة تتوارث الرئاسة وقيادة الجيش ورأس المال ، فيما يخضع الشعب للمهانة والجوع والفقر، وإما الانضواء تحت لواء الامبريالية والتساوق مع مخططاتها الاستعمارية والاقتصادية في المنطقة والاحتكام إلى الهيمنة الأمريكية . هل حقا لا يوجد بديل وخيار ثالث، أمام الشعب والنظام السوري، وهل عملية الجمع بين الديمقراطية – وأن كانت ليبرالية – والعدالة الاجتماعية أو الاشتراكية الحقة والممانعة للخطط الامبريالية والصهيونية أمر مستحيل وغير وارد في السياسة الشرق أوسطية ؟.
نطرح هذا السؤال رغم أن التجربة المصرية على حداثتها تطرح بدايات لنموذج آخر وتثبت أن ذلك ممكن ، وسلسلة القرارات التي نفذتها مصر الثورة مؤخرا من فتح معبر رفح والدور في إجراء المصالحة الفلسطينية وتسخين العلاقات مع إيران كلها تشهد بأن ذلك ممكن .
سؤال أخر يطرح ذاته وبقوة، هل يمكن لنظام أن يكون وطنيا ممانعا لمؤامرات امبريالية في وقت لا يسند فيه هذا النظام ظهره ويحتمي بإرادة شعب مقاوم، فخور بمواقف دولته، رافض لأي تدخل أجنبي علني أو متخف بشعارات براقة ؟ وان وجد هذا النظام فهل من الطبيعي والشرعي تخوين إرادة شعب بأكمله ؟ وأين حدود بسط سيطرة النظام ، وأين يكمن دور نظام يفيق يوما ليكتشف بعد أن لاحق النخب المطالبة بالإصلاح والحريات وسجنها، ليجد قطاعات من داخل الشعب ” ترتكب خيانة الوطن وتستعين بقوى خارجية لتمزيق لحمة الشعب ” ، أين كان هذا النظام وما هي الخطوات التي من الممكن أن يتخذها ليقود البلاد إلى بر الأمان ؟ .
نحن ضد التدخل الامبريالي الأجنبي في أي بلد عربي . ونحن ضد إخضاع الشعوب العربية للهيمنة الأمريكية الامبريالية ولكننا وفي الوقت ذاته ضد قتل المدنيين ، وضد تهجير العائلات والأطفال ، وضد تجويع الطبقة الكادحة ، تحت أي مسمى كان ، ممانعة أو مقاومة أو …عندما تسيل أنهار الدماء، تكون المسؤولية الأولى على نظام بشار الأسد في وقف النزيف السوري، بحكم كونه النظام وبحكم كونه يرتكب الجزء الأكبر من هذا القتل . وبحكم هذه المسؤولية يكون عليه اعتقال كل مخل بالأمن وكل من يطلق النار على قوى الأمن والمدنيين وتقديمهم للمحاكمة أمام العالم كله لا أن يقصف بالطائرات وأن يدمر بالدبابات .
يبدو أن تدارك الأمر الواقع يتم فقط بخطوات فذة تقلب موازين القوى لصالح المطالب الشعبية العادلة، وبأسرع وقت ممكن، فتحقن الدم السوري وتفوت الفرصة على كل القوى العابثة بمصير هذا البلد . أن مساحة المناورة أمام النظام السوري بين إبقاء الوضع على ما هو عليه ، والمقصود عدم أجراء الإصلاحات المطلوبة عليه والتي قد يكون الزمن تجاوزها إلى تغيير النظام بسبب انهار الدم ، وبين أجراء التغيير الحقيقي ، وتأمين المطالب الشرعية لقطاعات الشعب السوري الكادحة . مساحة المناورة تضيق يوما بعد يوم .
ومن المهم أن تلتفت قوى المعارضة، وبشكل جريء وواع، إلى محاولات اختراقها والى انتماءات قطاعات اندست في داخلها، تحاول حرف التحرك الشعبي، وأن تحمي ثورتها بيدها كما فعل شباب الثورة في ميدان التحرير في القاهرة ، نقول ذلك رغم الوعي بأن الأحداث والتدخل العسكري يصعب المهمة ويزيدها تعقيدا .
إن الخيار الثالث وارد، خيار الديمقراطية الحقيقية والعدالة الاجتماعية والحريات وحقوق الإنسان مجتمعة مع نظام ممانعة يتصدى للمؤامرات الامبريالية والصهيونية، هذا هو الخيار الوحيد والمارد الشعبي العربي كفيل بالوصول إليه وان تضاعفت الأثمان وان امتد الزمان .
رئيس تحرير جريدة ” الاتحاد ”
وعضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي في أراضي الـ 48