كتب أنور جمعه: في أعقاب نكسة حزيران عام 1967م، و احتلال إسرائيل لما تبقى من فلسطين التاريخية، و بعض الأراضي العربية، انكشف ضعف الأنظمة العربية آنذاك، و عجزها عن تحرير فلسطين فضلاً عن فشلها هي نفسها في حماية أرضها، فأصيبت الكرامة العربية بجرح غائر، فأبى الأحرار من شعبنا العربي الفلسطيني إلا الإنتصار للأمة عربية و للحق الفلسطيني، فظهرت المقاومة الفلسطينية، و برزت الهوية الوطنية الفلسطينية، التي قررت أن تأخذ زمام المبادرة من العرب، و تتحمل مسؤولية تحرير فلسطين.
جاءت انطلاقة جبهة النضال الشعبي الفلسطيني كبارقة الأمل، و بصيص النور الذي شع بعد هزيمة العرب في 5 حزيران 1967م. فبعد أربعين يوماً و في الخامس عشر من شهر تموز من العام نفسه، و في ظل أجواء الهزيمة و الإنكسار التي خيمت على المنطقة بأسرها ، أعلن المؤسسون الأوائل لجبهة النضال الشعبي استقلال النضال الوطني الفلسطيني من مدينة القدس قلب فلسطين النابض، ومن هؤلاء المناضلين الدكتور صبحي غوشة، و فايز حمدان “الرائد خالد”، و خليل سفيان “أبو الحكم”، والدكتور سمير غوشة، إبراهيم الفتياني، مصطفى وزوز، خالد الخروف، و رفعت عودة، و بهجت أبو غربية.
خطت الجبهة بيانها السياسي الأول في يوم انطلاقتها، فعبرت فيه عن فهمها للصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، و إيمانها بقدرة الجماهير على تحقيق الانتصار من خلال حرب الشعب طويلة الأمد، و دعت فيه إلى رفض الاحتلال الإسرائيلي و مقاومته، و قاد مناضلو الجبهة المظاهرات الشعبية ضد الاحتلال، وحرضوا الجماهير الفلسطينية على مقاطعة العدو مما ألحق بالاحتلال خسائر فادحة في كافة المجالات.
و لم تتأخر انطلاقة العمل العسكري المقاوم للاحتلال، فأعلنت جبهة النضال الشعبي الفلسطيني عن تنفيذ أولى عملياتها العسكرية في الرابع و العشرين من شهر كانون الأول من العام 1967م، و لم تلبث الجبهة أن زادت من نشاطها على صعيدين المقاومة الشعبية السلمية، و المقاومة المسلحة ضد الاحتلال، فإلتفت الجماهير الفلسطينية حول الجبهة و احتضنت مناضليها، و تاريخ النضال الفلسطيني حافل بالعمليات البطولية التي نفذها مناضلو الجبهة ضد الاحتلال، و فقدت الجبهة و جماهير شعبنا خلال مسيرة النضال الطويلة خيرة المناضلين الذين ارتقوا شهداء أثناء تأديتهم واجبهم الوطني و القومي، و قدمت الآلاف من الأسرى و الجرحى الذين لم يبخلوا ببذل الغالي و النفيس في سبيل حرية الشعب و كرامة الوطن.
و ترتب على فعالية الجبهة و نشاطها السياسي و عملياتها العسكرية النوعية، أن شددت قوات الإحتلال الإسرائيلي من ملاحقة مناضليها و استهدافهم بالإغتيال و الإعتقال، فإنتقل مركز عمل الجبهة إلى حدود الوطن في دول الطوق، لإنشاء قواعد عسكرية لتدريب أعضاؤها على المقاومة المسلحة وجمع المعلومات عن العدو والتخطيط لضربه والعمل على توفير السلاح لمواصلة الكفاح المسلح ضد الاحتلال.
بدأت الجبهة في بداية عام 1968 بتشكيل خلايا ومراكز تدريب في الأردن وبزيادة نموها أصبح لها قواعد عسكرية ومراكز للتدريب وميليشيات شعبية في مخيمات اللاجئين والمدن الأردنية وعددا من الأقطار العربية. أخذت الجبهة بالانتشار الواسع في تجمعات شعبنا الفلسطيني في فلسطين وفي الشتات وفي العديد من الأقطار العربية- الأردن- العراق- سوريا- لبنان- ليبيا- الجزائر- اليمن- الخليج- تونس وفي عدد من دول العالم. وقامت الجبهة بتطوير قدراتها العسكرية بحيث أصبح لديها قوات عسكرية محترفة مسلحة بأسلحة حديثة، مما ساهم في تعزيز عملها العسكري داخل الوطن المحتل ، و حماية الثورة الفلسطينية فشارك مناضلو الجبهة في تحقيق أول انتصار للمقاومة الفلسطينية على جيش الاحتلال الإسرائيلي في معركة الكرامة عام 1968م، حيث استشهد في تلك المعركة العديد من مقاتلي الجبهة منهم فايز حمدان “الرائد خالد” الذي استشهد في غارات القصف الإسرائيلي التي استهدفت قاعدة القدس إحدى مواقع الجبهة في أحراش السلط الأردنية في أغسطس 1968.
وفي سياق العمل الوطني و القومي للجبهة عملت مجموعات منها على حماية الرادار المصري في منطقة الشوبك الأردنية قرب مدينة الكرك، وهو الرادار الذي كان يؤمن تغطية للطيران المصري أثناء عملياته فوق شمال شرق سيناء وجنوب فلسطين حيث شكل مقاتلي جبهة النضال ، طوقاً من الحماية الأرضية المحيطة بالرادار تحسباً من إنزالي إسرائيلية متوقعة. وعبر علاقة التنسيق بين الجبهة و مصر في عهد الرئيس عبد الناصر، لعبت جبهة النضال دوراً فاعلاً في تنفيذ عملية تدمير السفينة الإسرائيلية إيلات عام 1969 عندما عملت الجبهة على توفير عمليات الاستطلاع الدائم عبر مجموعات تابعة لها، وفي تأمين الإقامة لمجموعة الضفادع البشرية المصرية في إحدى قواعدها جنوب الأردن، وفي المرحلة التالية بإيصال أعضاء المجموعة حتى شاطىء الازدلاف في خليج العقبة.
ومع بدايات العام 1969 كانت جبهة النضال قد شكلت ركيزة جيدة نسبياً من الحضور العسكري والتنظيمي في الساحة الأردنية، فساهمت في رفع زخم العمل المسلح، وفي المشاركة بالدفاع عن المقاومة في أحداث الأردن. وكان الدكتور سمير غوشة في عداد آخر المجموعات الفدائية التي خرجت من الأردن عام 1971 من القوات التي حوصرت في أحراش جرش، وهي المجموعات التي ولجت إلى الأراضي السورية، فأعادت تركيز بعض منها على امتداد الهضبة السورية المحتلة وانتقل بعضها الآخر إلى الساحة اللبنانية. حيث أعادت جبهة النضال بناء ترسانتها العسكرية جنباً إلى جنب مع فصائل المقاومة الفلسطينية .
تمكنت الجبهة من توسيع دائرة علاقاتها مع عمقها العربي فزودتها سوريا بالعتاد، وساعدتها على افتتاح أول قاعدة عسكرية لها في غوطة دمشق (بلدة جسرين) ومكنتها من نشر مجموعاتها الفدائية على امتداد هضبة الجولان، و حصلت على الدعم المالي من العراق. وبحكم علاقاتها الجيدة مع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، تمكنت الجبهة من إيفاد دفعتين من فدائييها إلى مصر، حيث أنجزت إحداها دورة عسكرية خاصة في معسكر حلمية الزيتون، بينما أنجزت دورة صاعقة ثانية تحت إشراف وتدريب الجيش المصري في معسكر أنشاص في مصر. وأقامت الجبهة علاقة تنسيق عالية مع قوات التحرير الشعبية التابعة لجيش التحرير الفلسطيني بقيادة العقيد عبد العزيز الوجيه، والعقيد بهجت الأمين، والعقيد سمير الخطيب. وأخذت الجبهة تقوم بعملياتها العسكرية ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي بالتنسيق مع قوات التحرير الشعبية.
وبعد العام 1975 توطدت العلاقة الخاصة بين الجبهة وكل من ليبيا والعراق، فحصلت على دعم مالي وتسليحي ساعدها في تطوير قدراتها و إمكانياتها العسكرية.مما مكنها من التصدي للهجمات الإسرائيلية على مواقع الثورة في لبنان و المشاركة في كافة معارك الثورة جنباً إلى جنب مع باقي فصائل العمل الوطني، فكان لها دور متميز في القتال في اجتياح 1978 واجتياح 1982. وقد ساهمت الجبهة بشكل فاعل في العمليات العسكرية ضد الاحتلال الإسرائيلي بعد خروج قوات الثورة من بيروت جنبا إلى جنب مع المقاومة الوطنية اللبنانية. وكذلك في معارك تحرير جبل لبنان والدفاع عن المخيمات الفلسطينية في لبنان حيث سقط في تلك المعارك العديد من الشهداء والجرحى.
و تجسيداً لإستراتيجية الجبهة التي اعتمدتها وهي حرب التحرير الشعبية طويلة الأمد كانت بنيتها التنظيمية تتشكل من: التنظيم العسكري السري الذي كان يضم أعضاء الجبهة الذي يعملون في الوطن المحتل، و المقاتلون في قواعد الجبهة في الأردن و سوريا و لبنان، و المليشيا وكانت تضم أعضاء الجبهة في مختلف الأقطار العربية الذين يمارسون دورهم التنظيمي و يؤدون الخدمة الثورية في القواعد العسكرية للجبهة لمدة شهر سنوياً، و الأشبال و الزهرات وهم صغار السن من 10-16 الذين تقدم هم برامج تدريبية في قواعد الأشبال لتنمية قدراتهم و الإرتقاء بإمكانياتهم.
و تطبيقاً لمبادئ الجبهة واستراتيجيتها في الكفاح المسلح وحرب التحرير الشعبية و من منطلق إيمان الجبهة بضرورة التصدي للإحتلال الإسرائيلي من خلال ممارسة كافة أشكال النضال و في مقدمتها الكفاح المسلح كأرقى أشكال النضال، قام مناضلي الجبهة بتنفيذ العديد من العمليات العسكرية النوعية داخل الوطن المحتل و على كافة الحدود المحيطة بالأرض المحتلة في الأغوار و الجولان و جنوب لبنان.
و على صعيد آخر تعد جبهة النضال الشعبي الفلسطيني أول تنظيم فلسطيني عربي ينجح في تحرير أسرى فلسطينيين، ففي يوليو 1970 قام ستة مناضلين من الجبهة بخطف إحدى طائرات شركة الخطوط اليونانية المتجهة من بيروت إلى أثينا و احتجزوا أفراد الطاقم و الركاب رهائن و طالبوا بالإفراج عن سبعة فدائيين أسرى في اليونان ، و بعد عملية تفاوض عبر الصليب الأحمر تكللت العملية بالنجاح وأطلق سراح الجميع.
و من عمليات الجبهة التي استهدفت تحرير الأسرى من سجون الاحتلال الإسرائيلي” عملية المطلة” تموز – يوليو 1975، حيث اقتحمت مجموعة الشهيد يوسف كلوسة من جبهة النضال الشعبي الفلسطيني، المنطقة الغربية من مستعمرة المطلة في الجليل الأعلى، وتمكنت من أخذ عدد من الرهائن، ووزعت في شوارع المستعمرة منشورات باللغة العربية والإنجليزية والعبرية، تطالب فيها بإطلاق سراح عشرين معتقلا فلسطينياً، و تمكن مناضلو الجبهة من الانسحاب مع الرهائن، إلى البساتين خارج المستعمرة في انتظار موافقة سلطات الاحتلال الإسرائيلي، على مطالبهم إلا أن العدو ماطلهم، ثم دفع بعدد من قواته المدعومة بالطائرات لمحاصرتهم ودارت معركة انتهت باستشهاد الفدائيين الثلاثة، ووقوع عدد من القتلى والجرحى في صفوف الرهائن والقوات الإسرائيلية.
دعت جبهة النضال الشعبي الفلسطيني منذ انطلاقتها إلى توحيد صفوف المقاومة الفلسطينية، كما دعت إلى إشراك الجماهير في محاربة العدو، إذ ترى “أن قوى الشعب العامل، من فلاحين وعمال ومثقفين وثوريين وفقراء، هي الطبقة الثورية التقدمية، وهي مادة الثورة الأساسية، التي تصارع الطبقة البرجوازية الكبيرة، وتصارع معها قوى الاستعمار والصهيونية؛ من أجل إزالة الاستغلال والاحتلال. وهذه الطبقة، هي الطبقة التي تريد التغيير حقاً، وتناضل، بصلابة، في سبيل إحداث التغيير الثوري الاجتماعي السياسي؛ وهي التي تصمد، في الصراع، إذا ما أتيح لها الوعي و التنظيم اللازمان”.
انضمت جبهة النضال الشعبي إلى صفوف منظمة التحرير الفلسطينية، منذ الدورة السادسة للمجلس الوطني الفلسطيني، المنعقد في القاهرة، بين الأول والسادس من سبتمبر عام 1969، و تم تمثيل الجبهة في اللجنة التنفيذية، و المجلس المركزي، و المجلس الوطني، و الاتحادات الشعبية لمنظمة التحرير الفلسطينية.
عقدت الجبهة تسع مؤتمرات عامة، ويعد بهجت أبو غريبة أول أمين عام لجبهة النضال الشعبي الفلسطيني ومندوبها في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية حتى العام 1972، وتسلم الأمانة العامة من بعده الدكتور سمير غوشة، الذي أصبح بدوره مندوبها في اللجنة التنفيذية للمنظمة منذ العام 1991، و بعد وفاته غوشة عام 2009م، انتخبت اللجنة المركزية للجبهة الدكتور أحمد مجدلاني أمينا للجبهة و ممثلاً لها في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية.
و منذ انطلاقة جبهة النضال الشعبي الفلسطيني في الخامس عشر من تموز عام 1967م، و حتى يومنا هذا، ما تزال جبهة النضال الشعبي الفلسطيني تواصل نضالها، و هي أشد تمسكاً، و أكثر إصراراً، على مواصلة مسيرتها الكفاحية، حتى تحقيق المبادئ و الأهداف الوطنية التي انطلقت من أجلها، و تحرص في كل مناسبة وطنية، على تجديد العهد بالوفاء للشهداء العظام الذين ضحوا بأرواحهم في سبيل تحقيق أهداف الشعب الفلسطيني في الحرية و العودة و تقرير المصير و إقامة الدولة الفلسطينية و عاصمتها القدس.
* عضو اللجنة المركزية لجبهة النضال الشعبي الفلسطيني