كأنها ليست فلسطين التي كانت قبل ثلاثة أسابيع، اختلف الأمر كثيرًا، حتى لدى الأوروبيين الذين كانوا يضعون أصابعهم في آذانهم، لا يريدون أن يسمعوا منها شيئًا، سوى أنها تفاوض، حتى لو كانت هذه المفاوضات مجرد طق حنك، ‘طق الحنك’ هذا منح المعنيين بالأمر غطاء سياسيًا وأخلاقيًا، بأن كل شيء يسير على ما يرام، فهم لا يمكن أن يكونوا فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين، ولا عربًا أكثر من العرب، فكل واحد لديه همّ على قدره، ولكن فلسطين التي كانت ‘بائحة’، باتت’صائحة’، والصائحة في ما يسمى’الشرع العربي’، -الذي ما زال معمولا به أو بأجزاء منه في كثير من المناطق العربية ومنها بعض مناطق فلسطين-هي التي تصيح معترضة ومقاومة لاغتصابها، وأخطر الحالات هي’صائحة الضحى’، أي تلك التي جرت محاولة اغتصابها، أو تمّت، في ساعات ما بين الصباح والظهر، إذ يكون الجاني فيها معروفًا للضحية أو لشهود العيان، ولا مجال للشك أو التملص، وعقوبته في هذه الحالة ثقيلة جدًا، ولا يحق لذويه الدفاع عنه، وليس أمامهم سوى الانصياع لحكم’المَنشد’، وهو الشيخ الذي ينشده الناس، ليبتّ في قضايا العرض والشرف.أما ‘البائحة’ فوضعها مختلف جذريًا، فهي التي تسترت أو سكتت أو تواطأت مع الجاني، فتم الأمر بموافقتها، ولا حقوق تذكر لها أو لذويها سوى بعض المراضاة.
السلطة الفلسطينية منذ اتفاقات أوسلو كانت’بائحة’من وجهة نظر العالم بما في ذلك العرب، أي أن ما يجري على أرضها من ممارسات استيطانية، يتم تحت بصر وسمع المفاوض الفلسطيني، الذي قرر وبعناد أن’يطلب الدبــــس من قفا النــمس’، فالسلطة ظنت أنها بالتنازل بعد التنازل، تُحرج حكومات إسرائيل أمام العالم، وتجعل وجه الذئب الكاسر يحمرّ ويخضر خجلا ويستحي على دمه، فتصرفت مثل العنزة الغبية في القصة، التي قدمت جداءها واحدًا تلو الآخر لإرضاء الذئب ليترك لها البقية، ولكن الذئب لا يشبع، ويسعى لمزيد من التنازلات والآبتزازات، بعدما حشر ضحيته في الزاوية، وجعل روحها معلقة بكرَم أنيابه ومخالبه.
سياسة ‘العنزة’ الغبية، أو الساذجة، أو المغلوب على أمرها، التي مارستها السلطة الفلسطينية، منحت الرأي العام العالمي وخصوصا الأوروبي والأمريكي والعربي غطاء سياسيًا وأخلاقيًا، فعندما تنسق الضحية مع مغتصبها أمنيًا، وتلتقط الصور التذكارية معه، وتبتسم للكاميرات وتقرع الأنخاب معه، يسقط حقها في الصراخ أو حتى التذمر، ولا تكون مقنعة عندما تطلب الحماية من أنياب ومخالب ذئب سهرت معه حتى الفجر، فهي’تفاوض’ ثم تخرج ببيانات مشتركة عن سير المفاوضات في ‘الآتجاه الصحيح’، وأن هناك ‘تفاهمات’وبعض’الإشكالات’ التي يسعى الطرفان لحلها، فما الذي يمكن للعالم أن يفعله سوى بعض المجاملات ودعوة الطرفين لتجاوز’الإشكالات’، فالعنزة تبنت لغة ومصطلحات الذئب، والقضايا العظمى مثل تهويد القدس أصبحت ‘إشكالا’، والأرض التي من المفترض أن تقوم الدولة الفلسطينية العتيدة عليها أصبحت أراضي متنازعا عليها، وتحولت قضية اللاجئين إلى أحجية سوف يتم التفاوض عليها بعد سبعة، ولا أحد يعرف بعد سبعة أعوام أم سبعة عقود أم سبعة قرون، وتصبح فكرة الدولتين للشعبين‘ نافذة للتخلص من عرب 48، أو حرمانهم من حقوقهم، إضافة إلى أن الاقتصاد الفلسطيني بات يعتمد كليا على منشآت ‘لله يا محسنين لله‘.
ما حصل هو أن أبو مازن وقف أمام العالم ودبّ الصوت، و’دبة الصوت’هي طلب النجـــــدة بأعلى الصــــوت، وهي عند الفلسطينيين صرخات متواصلة من عبارات ‘جاي يا غلمان جاي’، وهي عند المصريين’يا ناس…ياهو..إلحقونا…النجدة النجدة..إلحقونا’ فيهرع من يسمعها إلى مصدر الصوت وقد عرف أن أمرًا خطيرا قد حدث….بدبّه للصوت تخلى أبو أبو مازن عن دور ‘البائحة‘….
مهمة السلطة الوطنية بالنسبة لإسرائيل هي أن تلعب دور’البائحة’، وقد طاب هذا الدور كثيرًا لنتنياهو، لدرجة أنه ذهل من ‘دبة صوت’أبو مازن الذي حول القضية إلى’صائحة’، وقرر أن يعاقبه، كي يقنعه بأن الصراخ لن يجديه، لقد جُن نتنياهو بالفعل مثل مجرم تغضبه ضحيته الضعيفة عندما تقاوم وتصرخ وتطلب النجدة، فيزداد عنفا تجاهها ويحدث أن يقتلها….
نتنياهو ظهر طيلة سنوات أمام العالم بموقف القوي المفاوض لأجل’السلام’، وفي الوقت ذاته أظهر لشعبه بأن ما يمارسه ليس سوى خدعة لن تؤثر على أيديولوجيته الإستيطانية ولا للحظة واحدة، وأقنعهم بأن الفلسطينيين لن ينصاعوا ‘للسلام’ إلا بالقوة، اللغة التي لا يفهم العرب لغة سواها، بدليل أنهم يحترمونه ويتفاوضون معه رغم إذلاله المتواصل لهم، لقد تعملق نتنياهو وزبانيته في جزيرة الأقزام التي قادها المخلوع حسني مبارك، وكلما تذمرت السلطة الفلسطينية من قسوته وساديته المفرطة، رفع نتنياهو الهاتف وقال للمهتمين بالأمر’رجاء لا تتدخلوا بين البصلة وقشرتها'(نحن نصطفل) مع السلطة الفلسطينية…فهي المقصرة، وهي التي لا تقوم بما هو مطلوب منها…
كانت شعبية نتنياهو في أوجها عندما سعى لتجديد’البيعة‘ على شكل انتخابات ديمقراطية، وجاء تنفيذ أبو مازن لتهديده بالذهاب الى الأمم المتحدة كأنه خروج على الطاعة، وقبلها جاء نجاح أوباما بغير ما تشتهي سفينة نتنياهو، تلتها صفعة ‘عمود الدخان’,فلم يتحمل الصفعات المتواصلة، لأنه لم يعتد أصلا على الصفعات، وتلى كل ذلك صفعات استدعاء سفراء إسرائيل في عدد من الدول المهمة، وتوبيخهم، وطلب توضيحات منهم حول الأنشطة الإستيطانية الإنتقامية، هذه الصفعات دعت نتنياهو للهرب إلى الأمام، ليعلن عن مزيد من الاستيطان، وكأنما يقول للعالم..أنتم وقرارتكم تحت حذائي.
بإمكانه أن يقول ما يشاء، ولكن الحقيقة هي أن توجه ‘العنزة’طلبا للحماية والنجدة من العنوان الصحيح بالتزامن مع الصمود العسكري في القطاع، كان بمــــثابة صــــفعة وبصقة في آن واحد بوجه الذئب. الآن وبعدما صارت فلسطين ‘صائحة’ أصبح من واجب العالم أن يتخــــذ موقفــا، وعلى العرب أن يستغلوا المزاج الدولي الجديد، وها هو العالم يطالب بفتح ترسانة إسرائيل النووية أمام الرقابة الأممية. يبدو أن الأمور لن تكون سهلة بالنسبة لنتيناهو وشريكه ليبرمان، نتنياهو الذي تدخل بوقاحة في الإنتخابات الرئاسية الأمريكية ولم يعرف حدوده، سيعاني الآن من تدخل أوباما وأوروبا غير المباشر في الإنتخابات الإسرائيلية، وإذا كان نتنياهو قد تلقى صفعات خفيفة حتى الآن…فقد يكون بانتظاره ما هو أقسى من الصفعات …الشلوط مثلا…لم لا!!
القدس العربي