نظرية – أيديولوجيا السور والجدار… من هيرتزل وجابوتنسكي إلى ليبرمان ..بقلم: د. سعيد يقين

2017/11/28
Updated 2017/11/28 at 9:21 صباحًا


بحثاً عن موقع جديد لمستوطنة جديدة في الأغوار، جال وتجول وزير الدفاع الاسرائيلي ليبرمان مساء الأحد (17/9/2017) في مناطق الأغوار والبحر الميت وقال لمرافقيه من الإعلاميين والطاقم الأمني في تلك الجولة الاستيطانية: “ان الاستيطان في الضفة الغربية ومنطقتي الأغوار والبحر الميت هو السور الواقي الحقيقي لدولة إسرائيل”. لا تبتغي هذه المقالة تأطيراً معرفياً لموقف ليبرمان من الاستيطان فتلك مسألة بديهية، خارجة عن سياق هذه المقالة.
استخدم وزير الدفاع الإسرائيلي وزعيم حزب إسرائيل بيتنا مصطلح السور الواقي، (وهو إذ ذاك) كان منسجماً تماماً بل شديد التماهي والانسجام مع نظرية الجدران والأسوار التي شرع هيرتزل في تأطير جذورها الأيدولوجية عام 1897، وأود الإشارة هنا الى أن مصطلح الجدار والسور الذي يشكل أحد الأعمدة الكبرى للنظرية الاستعمارية في فلسطين ما هو إلا نتاجاً لثقافة دينية عميقة الجذور ولقيمة ميثولوجية أصيلة في الخطاب التوراتي، إذ بدأت فكرة الخلاص الأولى بالجدار والسور في سفر التكوين، وهو السفر الأول من التوراة، إذ ورد مفهوم السور والجدار ثلاث مرات ثم لاحقاً في سفر الخروج.. ولكنني هنا سأتوقف عند الجذور الأولى لمفهوم السور عند القادة المؤسسين للمشروع الاستعماري الانعزالي في فلسطين الذي يشكل فيه تصريح ليبرمان امتداداً للخط الناظم لأيديولوجيا السور والجدار في مشروع بناء الدولة اليهودية في فلسطين.
كان مشروع الدولة اليهودية الذي نشره ثيودور هيرتزل في فيينا عام 1896 باللغة الألمانية وذهب به إلى المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897 يشكل التوراة العلمانية للحركة الصهيونية الناشئة، وهو يندرج ضمن كل المعايير العقلانية والأحكام الأخلاقية ضمن إطار النظرية الاستعمارية بكامل معانيها وتجلياتها وأبعادها. وكان هيرتزل وهو يؤسس لنظريته بنظام من الأطر العنصرية والاستعلائية والانعزالية فإنه كان يفعل ذلك من منطلق رفض الاندماج بالقوميات الغربية التي يقيم اليهود بينها، قائلاً بأن الاندماج هلاك للسلالة اليهودية ذات الدماء العريقة، ومعتقداً بأن الدولة اليهودية هي الأداة الوحيدة القادرة على حماية السلالة من خطر الاندماج وفق النظرية النازية القائلة بأن الدولة المثلى هي الجهاز الأقدر على حفظ النوع السلالي العرقي. “وهي الدولة التي يتعين عليها (كدولة يهودية) حصراً في فلسطين أن تكون جزءاً من (السور) الواقي لحماية أوروبا ضد الثقافة والأخلاق الآسيوية شرق المتوسط”، أي أن تكون هذه الدولة بمهمة وظيفية كجدار أمامي للحضارة الغربية مقابل وضاعة وانحطاط الشرق والشرقيين، كحالة إنسانية متخيلة في الفكر الغربي.
إذا، تفترض الدولة اليهودية المتخيلة حين ذاك لدى هيرتزل الانعزال عن القبائل البربرية المتوحشة المقيمة في فلسطين من جهة ومن جهة أخرى أوكل هيرتزل لنفسه ودولته مهمة ذات طابع أخلاقي حضاري بأن تكون هذه الدولة عبارة عن (سور أو جدار) لحماية الحضارة الأوروبية، باعتبار أن الدولة اليهودية امتداداً لهذه الحضارة الغربية في الشرق.
بعد عقدين ونيف نشر فلاديمير جابوتنسكي مؤسس اتحاد الصهاينة التصحيحيين أو الحركة التصحيحية (هاتزوها) مقاله الشهير عام 1923 بعنوان (الجدار الحديدي) باللغة الروسية. كان جابوتنسكي قد أدرك منذ العام 1920 عندما قاد الهاجاناه لمساعدة جيش الانتداب لقمع المظاهرات في القدس التي اندلعت ضد السياسة البريطانية وضد الهجرة اليهودية، وكان أيضاً من خلال تجربة الاستعمار البريطاني والإيطالي وخاصة تأثره المباشر بشخصية موسوليني، قد أدرك أنه من غير الممكن الحصول على موافقة طوعية لعرب فلسطين بتحويل بلدهم إلى دولة ذات أغلبية يهودية.
تقوم نظريته في (الجدار الحديدي)، أن لا شعب من السكان الأصليين في أي زمان أو أي مكان يستطيع القبول بأي شكل من اشكال الاستيطان، فكل الشعوب حاربت وسوف تحارب الاستيطان والمستوطنين طالما بقي لديهم بصيص أمل في التخلص من خطر الاستيطان، (ويضيف) وهكذا فعل عرب فلسطين وهكذا سيفعلون طالما بقي لديهم الأمل في دحر المشروع الاستيطاني الصهيوني. وهو يقرر بوضوح أن الفلسطينيين لن يقبلوا بهذا المشروع، بل أن هذا القبول هو نوع من المستحيل، وعليه من الواجب الصهيوني الاستمرار في الاستيطان ضد إرادة عرب فلسطين لأن التوصل لاتفاق معهم هو من قبيل الوهم غير القابل للتحقق، وبمقدور هذا الاستيطان أن يتواصل ويتطور لحماية المستوطنين من (خلال الجدار الحديدي) الذي لن يكون لعرب فلسطين القدرة على اختراقه لمناعته الإدارية والأمنية الذي يعبر عن سطوة العنف القاتل الذي سوف يفقد الفلسطينيون فيه الأمل، وعندما لا يظهر أي ضعف في الجدار الحديدي سيوافق العرب على القبول بالمشروع الاستيطاني. بمعنى، أنه لا يمكن القبول بالمشروع الاستيطاني إلاّ بالحراب اليهودية التي يحسمها (الجدار الحديدي).
يبدو أن مفهوم الجدار والسور في تصريح ليبرمان مساء الأحد (17/9/2017) له دالته ودلالته العميقة فهو نتاج ثقافة جدارية سواء في جذورها الميثولوجية الدينية أو في جذورها العلمانية الحديثة، وهو إذ يستخدم المصطلح فإنه يعبر من حيث يدري أو لا يدري عن عقدة الجدار الذي يمثل ذروة ثقافة الانعزال عن الآخرين، انعزالاً في الحالة التاريخية الدينية الأولى وعزلاً وتدميراً واقتحاماً لحيز الآخرين في الحالة السياسية الإسرائيلية العلمانية الحديثة “جمع منعزل وبالأغيار لا يكترث” (سفر يوشع- الاصحاح 23- آية 8).
وعليه، يمكن تأطير تصريح ليبرمان المشار إليه في مطلع هذه السطور ضمن السياق الاستعماري الممتد من زاوية الأهمية التي حملتها الحدود والجدران والأسيجة خلال المواجهات بين المستوطنين والسكان الأصليين خلال القرن التاسع عشر والعشرين، وإذا كانت قيادة الحركة الصهيونية ومنظريها الأوائل قد ابصروا دولتهم المبتغاة مسورة بالجدران والأسيجة، فإن القادة اللاحقين (رابين، باراك، أولمرت، شارون، نتنياهو وأخيراً ليبرمان) قد حققوا بالتجسيد الفعلي هذه الدولة المتخيلة المسيجة من أجل جعل المشروع الاستعماري ممكناً ونظيفاً من الأغيار.
فالاستيطان في الأغوار كضرورة جدارية (وكسور) واق لدولة إسرائيل حسب ليبرمان لا يعني إلاّ استكمالاً للتطهير العرقي للأغوار من الإنسان العربي في المكان. وفقط من هذه الزاوية يمكن إدراك عملية طرد التجمعات البدوية وهدم المنازل والمنشآت في الأغوار وغيرها من المناطق العربية في فلسطين.

Share this Article