سيرة حكيم مقدسي.. بقلم :مهند عبد الحميد

2018/03/31
Updated 2018/03/31 at 9:29 صباحًا


طمنا عن صحتك حكيم؟ أجاب، أواصل لعب كرة القدم وقد دخلت المباراة الرابعة في هذا الموسم بنجاح منقطع النظير، الابتسامة لا تفارقه، وقد قارب على التسعين من عمره، فسرعان ما يكتشف المرء الهوة بين هذه الفئة العمرية وبين روح الدعابة التي تلازمه معظم الوقت والنابعة من الثقة بالنفس وبالأجيال الجديدة التي يعول عليها في تغيير المعادلات.
يجلس وأمامه أوراق ومذكرات هي عبارة عن مخطوط بعنوان (سيرتي الذاتية 1929 – 1971) د. صبحي غوشة. يتكون المخطوط من 400 صفحة هي جزء من مخزون ذاكرة لا ينضب، قال في مقدمته، “قمت بتدوين هذه الصفحات من الذاكرة دون الرجوع إلى أي وثائق كما يفعل الكثيرون”، لكنه استعان بعدد من رفاق ورفيقات المسيرة الذين كان يعرض عليهم ما يكتبه ويستمع إلى ملاحظاتهم ونقدهم واقتراحاتهم، ما يضفي طابعا ديمقراطيا في أسلوبه.
ويحرص د. غوشة على تقديم تجربته بما فيها من نجاح وإخفاق للأجيال الصاعدة علهم يستخلصون الدروس كما يقول في مقدمته، ولما كانت السيرة الذاتية والتاريخ الشخصي للدكتور غوشة لا ينفصلان عن تاريخ الحركة الوطنية في مراحلها المختلفة، فإن لهذا النوع من السيرة أهمية كبيرة، سيما وانه قدم إضاءات لتجربة سياسية فيها غنى وفيها عثرات وانسدادات.
التفاؤل في زمن التردي والانهيار هو أكثر ما يلفت الانتباه في تجربة د. غوشة النضالية وفي رؤيته للواقع الراهن، ذلك النوع من التفاؤل الذي يحاول البرهنة عليه طوال الوقت، رافعا كأسا من الماء أمامه وهو يقول، ما يهمني هو الماء الموجود في الكأس، وليس الفراغ الذي يخلو من الماء.
واستطرد قائلا، ذات يوم، قال محدثي السياسي وهو في حالة من الإحباط، إن نصف المقدسيين سلبيون، أجبته ولكن النصف الآخر من المقدسيين ايجابيون بحسب ما تقول، وهذا شيء مهم ويمكن العمل مع الإيجابيين ودعمهم من اجل تحويل السلبيين إلى إيجابيين أيضا، لا يمكن أن تكون نسبة الإيجاب كاملة في أي شعب، فقد ترتفع وقد تنخفض بحسب الشروط التي يمر بها الشعب.
سألته عن أسباب تفاؤله والجميع يرى حالة الإحباط والارتباك التي تعيشها الحركة السياسية؟ أجاب، أنا متفائل جدا وقد تستغرب في ذلك، ومضى في شرح أسباب تفاؤله، السبب الاول: استمرار المقاومة بأشكالها المختلفة في فلسطين وإخفاق ثقافة التعايش مع الاحتلال التي ليس لها مكان عند الأجيال الجديدة، وما يحدث في مدينة القدس وفي كل نقاط التماس مع قوات الاحتلال أكبر دليل، أرى يوميا على الفضائيات مقاومة هذا الجيل وتحديه لسلطات الاحتلال وهذا يعني أن إرادة التحرر أقوى من كل اجراءات الاحتلال القمعية وسياسات الإخضاع المنهجية.
ثانيا: اهتزاز غطرسة القوة الإسرائيلية رغم الدعم الأميركي الهائل والتطبيع الرسمي العربي معها إلا ان دولة الاحتلال تبدو بمستوى غير واثق بل مهزوز ولا يتناسب الأداء مع حجم القوة والتأييد الخارجي غير المحدود، فضلا عن استفحال التناقضات والصراع الداخلي بين مكونات المؤسسة العسكرية والسياسية وبين الأحزاب وداخلها وصولا إلى مكونات المجتمع الصهيوني. دولة تخشى الأطفال والفتيان وتقدم نفسها للعالم عبر ممارسات جنودها مثلا إطلاق الرصاص على الشاب عبد الفتاح الشريف وهو يحتضر بلا حراك وقتله بدم بارد، وفوق كل ذلك تنبري المؤسسة الإسرائيلية في الدفاع عن الجندي القاتل ازاريا، والمؤسسة الأمنية تخشى الفتاة عهد التميمي التي اقتيدت مع أمها وشقيقتها الى المعتقل ويتحول دفاعها المشروع عن نفسها وعن منزلها الى مس بأمن دولة الاحتلال وبهيبتها. ومن يعود الى مشهد الفتى فوزي الجنيدي الذي اقتاده اكثر من 20 جنديا وهو مكبل اليدين ومعصوب العينين لا يجد تفسيرا لذلك المشهد إلا نوعا من أمراض الارتياب، كل هذه المشاهد تعبر عن اهتزاز ثقة المحتلين بأنفسهم، مقابل الثقة والشجاعة التي يتمتع بها الشبان الفلسطينيون، وهذا يعزز التفاؤل ليس عندي فقط وإنما عند أوساط متزايدة قال د. غوشة.
ثالثا: التعاطف والتأييد والدعم من قبل المجتمع الدولي – شعوبا ومؤسسات وحركات وقوى – لنضال الشعب الفلسطيني، التأييد الذي يتجسد في قرارات وفي أشكال من المقاطعة وأشكال من التضامن، وأشكال من الاحتجاج على الانتهاكات والجرائم الإسرائيلية، على سبيل المثال، نسمع كل يوم عن مقاطعة إسرائيل من قبل نخب أكاديمية وفنية وثقافية وسياسية في مختلف البلدان، وهذا يكشف انحياز أكثرية دول وشعوب العالم للنضال الفلسطيني في مقابل أقلية تتزعمها الولايات المتحدة تؤيد غطرسة القوة الإسرائيلية، هذا النوع من الاستقطاب يؤكد ان الشعب الفلسطيني ليس وحيدا، وان حركة مناهضة الاحتلال الإسرائيلي تتسع اكثر فأكثر عندما تتوفر رافعة فلسطينية مثل (بي. دي. اس) ما يبعث أيضا على التفاؤل.
الشغل الشاغل الذي يوليه الحكيم المقدسي اهتماما وحيزا كبيرا من نقاشه هو ضرورة “الميثاق” او إعادة الاعتبار للميثاق الذي ساهم سابقا في توحيد كل الشعب الفلسطيني وفي التفافه حول المنظمة كحركة تحرر وطني وتبنيه لبرنامجها بما في ذلك شكل النضال.
يرى د. غوشة ان انفراط الميثاق كعقد وطني اجتماعي أدى الى تفكيك الحركة الوطنية والى انفصال تنظيماتها السياسية عن جماهيرها وصولا الى توقف الاستقطاب الشعبي ضمن الأطر والمؤسسات التقليدية. شاركته الرأي حول أهمية العقد الوطني الاجتماعي لإعادة توحيد الشعب والحركة السياسية على قاعدة الالتزام بمصالح الشعب الفلسطيني في مختلف أماكن تواجده، لكن الميثاق السابق لا يلبي التطور النوعي في التركيبات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الفلسطينية، الأمر الذي يتطلب ميثاقا جديدا، ومن الخطأ تعديل الميثاق على الطريقة السابقة، ومن الخطأ القيام بتعديل جديد. أجاب الحكيم المقدسي، لماذا لا نعود الى الميثاق القومي أولا وبعد ذلك نحدث التطوير عليه، وأضاف، إن أي وقت يمر دون مرجعية دون ميثاق، يؤدي الى المزيد من التفكك وفقدان البوصلة. نحن الآن بدون ميثاق وهذا يفسر الانقسام الحالي المرشح للتفاقم.
الحديث مع الحكيم المقدسي يأخذك الى أكثر من زمان ومكان، حيث تنثال الذاكرة المليئة بحكايا الزمن الجميل، كان وما يزال يفتش عن عناصر القوة ويستجمعها ويحيلها الى الأجيال الجديدة، وكأنه يرغب في الاندماج بها متجاوزا عامل السن. ويعود نجاحه في اكتشاف القوة وترويجها، الى اندماجه بالناس منذ بدايات النضال وعبر عيادته كطبيب التي كانت قاعدة لاستقطاب المناضلين ولدعم كل من احتاج الى العلاج من أبناء شعبه، لم ينفصل حكيم القدس عن الناس منذ ان احبهم واحبوه وكان ذلك سر عطائه المتدفق وسر تفاؤله وحماسه وحضوره الدائم.

Share this Article