ملادينوف رايح ملادينوف جاي بقلم :عاطف أبو سيف

2018/07/16
Updated 2018/07/16 at 8:30 صباحًا


من غرائب المشهد الفلسطيني، إلى جانب الكثير من مفاعليه الداخلية، تلك التدخلات التي تبدو مبالغاً فيها من أطراف خارجية في الأحداث والتفاصيل. ربما قد يكون مبالغاً فيه التقليل من حجم التدخلات الخارجية في القضية الفلسطينية؛ نظراً لخصوصية فلسطين وما تتمتع به من مكانة لدى أطراف مختلفة، وبعد ذلك الاهتمام المتنامي الذي اكتسبته المنطقة برمتها بعد ثورة النفط، ولكن أيضاً كل قضية في العالم لديها أطراف خارجية تهتم بها وتتدخل في تفاصيلها، وهذه سمة العلاقات الدولية وسياسات الجوار والأقاليم. ولكن أيضاً في المشهد الفلسطيني ما يبدو غريباً هو تلك الجرأة العالية التي تتمتع بها الأطراف المتدخلة إلى الدرجة التي يتم فيها تجاوز الحدود وتخطي الأدوار.
مثلاً لاحظوا الاهتمام الكبير الذي تحظى به زيارات مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة نيكولاي ملادينوف لغزة ومؤتمراته الصحافية التي تصبح مدار حديث الساعة. ليس هذا فحسب، بل إن مجمل تصريحاته تجذب الساسة والمعلقين ونشرات الأخبار سواء. ربما الأمر ليس أقل أهمية حين يتعلق الأمر بالسفير العمادي وما يقوم به من دور في قطاع غزة. فلقاءات العمادي وتصريحاته ومؤتمراته الصحافية أيضاً تجذب ذات الاهتمام. طبعاً في مشهد ومسرح للأخبار مثل غزة فإن أي شيء قد يجذب الانتباه، لأن أدق التفاصيل وأقلها أهمية قد تتحول فجأة لحدث كبير وهذا شيء وارد بطبيعة السياسة في هذا الشريط الساحلي الجنوبي من فلسطين.
لكن ما يثير حقاً هو: كيف يتخطى الأفراد أدوارهم؟ وكيف يتجاوزون حدود مهامهم؟ وهذا وحده ليس المفاجئ، إذ إن المفاجئ أكثر هو: كيف يتم تقبل ذلك من قبل الجميع والتعاطي معه بوصفه تحصيلاً حاصلاً، وأمراً بديهياً؟ وحين نقفز خلف الحدود لا يكون دائماً قفزنا مستحباً، ولكن أن يتم التعامل مع هذا القفز من قبل الآخرين على أنه أمر طبيعي فهذا الشيء غير الطبيعي. مرة أخرى يبدو منطقياً محاولة الجميع التدخل في الملف الفلسطيني لأهمية وحساسية السياق الفلسطيني ومتعلقاته الإقليمية والدولية، ولكن ما لا يبدو طبيعياً هو كيف لنا أن نسلّم بذلك ونتعاطى معه بأريحية.
لاحظوا السيد ملادينوف، الذي هو في الحقيقة مبعوث الأمين العام لعملية السلام في الشرق الأوسط، يمكن لك حين تسمع مؤتمره الصحافي، أمس، في غزة أن تشعره وكأنه المندوب السامي لغزة، فالرجل لا يتحدث عن عملية السلام ولا عن أي شيء سياسي، إذ إن كل ما يتحدث عنه هو غزة من ألفها إلى يائها، من المياه والمجاري فالبطالة والمعابر والمصالحة الداخلية. ويظل السؤال البسيط الذي تبدو الإجابة عنه تعرية لكل ذلك: ما علاقة كل ذلك بمهمة السيد ملادينوف؟ دائماً يمكن نسج علاقة وتركيب سبب ونتيجة، ولكن لا يبدو الأمر مقنعاً دائماً، إذ إن المنطق غير التبرير، والقبول غير الادعاء. في مؤتمره الصحافي تحدث السيد ملادينوف عن خطة لإنقاذ غزة لا يوجد بها شيء سياسي بالمطلق، ذكر كل شيء إلا السياسة. بكلمة أخرى تحدث في كل شيء إلا في مهمته الأساسية: عملية السلام. جاء على الحرب والعدوان على غزة وتجنيب المدنين المزيد من الويلات، بل إنه طالب الكل بضبط النفس وأشار بطريقة مواربة إلى أفعال إسرائيل كرد فعل، حين قال ضبط رد الفعل، ولم يشر إلى أنه اعتداء، وهذا موضوع آخر، وتحدث عن الوضع الأمني مع إسرائيل والتصعيد ومسيرات العودة ومنع الفتيان من التعرض للخطر قرب الحدود، والطائرات الحارقة، وليست الورقية، كما أشار إلى المعبر مع مصر وأثنى على مصر لفتحها المعبر، وإلى المصالحة ونصح الفصائل الفلسطينية بالإنصات إلى التوجيهات المصرية، وتحدث عن حرية الحركة والعبور من وإلى قطاع غزة والمعابر وتحسين الوضع الاقتصادي للسكان، وخلق فرص عمل، واستمرار عمل “الأونروا” والجهود المبذولة لحمايتها. وكل ذلك يبدو جميلاً ومقبولاً، ولكنه لم يتحدث بشيء عن مهمته الأساسية المتمثلة في عملية السلام التي نجحت إسرائيل في قتلها ودفنها، وعليه ربما لم يعد له مهمة من الأساس، أو أن مهمته تتمثل في قضايا غير تلك. الرجل قال ما نقوله: إنه لا دولة في غزة ولا دولة بلا غزة، وهذا كلام جيد، لكن الحديث عن خطته بحد ذاته يبدو مريباً؛ لأن أساس أي تدخل دولي في الصراع هو في الضغط على إسرائيل لا في تنفيذ رؤيتها الاقتصادية للحل، فالفلسطينيون ليسوا مجموعة من الجياع الذين أنهكتهم الحروب ويبحثون عن قصعة أو صحن طعام.
مع فشل المبعوثين الأميركيين في تسويق خطتهم، يبدو البحث عن بدائل أقل كلفة من التراجع المهيمن الذي سيمنى به سيد البيت الأبيض، أمراً مستحباً. وليس على الطاولة إلا خطة ملادينوف التي تبدو صيغة معدلة عن مقترحات الصهر الأميركي. بالطبع النوايا لا تبدو مشتركة لكن النهايات تتشابه، وربما الإجراءات التفصيلية تتقاطع. بكلمة أخرى فإن ما أشاعه السيد ملادينوف، خاصة وهو يقدم نفسه المدافع عن غزة في مجلس الأمن وهو يسرد واقع قطاع غزة “الإنساني” ما هو إلا استكمال للدور الكبير المطلوب حتى نصل إلى اللحظة.
إنها اللحظة التي صنعها الانقسام ونجح في تقديمها مع بعض المكياج بوصفها اللحظة الفلسطينية الحتمية التي لا مفر منها. في تلك اللحظة وحين يتعذر كل شيء يصبح البحث عن تحسين جودة الحياة عملاً بطولياً. أليس هكذا بات التفكير في غزة وبات التفكير عن غزة؟ أما الحقوق السياسية الكبرى فهي ليست بأكثر من أحلام تزورنا في المنام.
عموماً ثمة أدوار أكبر من الحقيقة يقوم بها فاعلون كثر، وإن الإنصات الجيد يكشف الكثير من المستور، والبحث عن الأفضل في الكثير من الأحيان يقود إلى الخيارات الإجبارية.

Share this Article