مانجو نيتساريم بقلم :عاطف أبو سيف

2018/09/17
Updated 2018/09/17 at 8:12 صباحًا


فيما دار حديث عن ذكرى رحيل قوات الاحتلال من داخل قطاع غزة فيما عرف فلسطينياً بالانسحاب الإسرائيلي وسمي إسرائيلياً بفك الارتباط، فإنه يمكن ملاحظة يافطات كثيرة في مدينة غزة لمحلات تبيع الفواكه باسم “مانجو نيتساريم”، في إشارة إلى المانجو التي تنمو في منطقة المغراقة ووادي غزة والتي كانت تقام فيها مستوطنة “نيتساريم” قبل تفكيكها عقب رحيل قوات الاحتلال إلى تخوم قطاع غزة لتحاصره بصورة اكثر نجاعة من هناك.
وفيما الأسماء العربية الخالدة التي تشكل امتداداً للإرث الكنعاني الذي جبل الأرض وأعطاها اسمها وشكلها ورائحتها ونثر فيها بذرة الحياة الأولى فإن التاجر الذي يريد أن يكسب ربحه لا يهمه كل هذا ويصر على تقديم إساءة خطرة للوعي الوطني من خلال امتداح فاكهته بأنها فاكهة “نيتساريم”.
وفيما رحل الغزاة، إلا أن هناك من يريد أن يحفظ أثرهم. كان الراحل ياسر عرفات هو من أطلق على اسم مفترق الطرق الذي يتفرع منه الشارع المفضي إلى مستوطنة “نيتساريم” اسم مفترق الشهداء حتى لا تقع الذاكرة الشعبية ضحية المألوف والمتداول ويصبح اسم المفترق مفترق “نيتساريم”، وكان الركون إلى اسم الشهداء هو أسمى ما يمكن أن يشكل نقطة إجماع وطني وتحفيز للمخيال الشعبي خاصة مع اندلاع المواجهات العنيفة بين قوات الاحتلال والشبان على المفترق بعد عودة ياسر عرفات من مباحثات كامب ديفيد التي سجل فيها أنه ذهب للمفاوضات ليقاتل لا ليساوم كما كان يحلو لخصومه أن يدعوا زوراً وبهتاناً.
كم يشعر المرء بالحسرة وهو يقرأ مثل هذه اليافطات، ويشعر أن المال اكبر من الوطن، وان التاجر هو الذي يقرر الوعي الشعبي وليس تضحيات الناس ونضالاتهم والدماء التي سالت من اجل ان يحافظوا على المكان.
عادة الغزاة أنهم يتركون أثراً بعد ذهابهم، لكن هذا في حالة الاستعمار وليس في معركة بقاء الوجود والصراع على هوية المكان. المشروع الصهيوني ليس استعماراً وليس احتلالاً بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، بل هو مشروع إحلالي قائم على نفي الوجود الفلسطيني واستبدال هذا الوجود بوجود آخر. وليس صياغة الرواية التاريخية الكاذبة ولي عنق التاريخ وتزوير الوقائع وابتزاز الحوادث وإخراجها من سياقها.
بالتالي ما قامت به الحركة الصهيونية وتواصل إسرائيل القيام به، بالتالي، ليس احتلالاً مثل الاحتلال البريطاني لأجزاء من أفريقيا، ولا الفرنسي لأجزاء أخرى ولا الإسباني لأجزاء ثالثة. حتى هو لا يشبه الاستيطان الإحلالي الذي قامت به مجموعات المستوطنين البيض في جنوب أفريقيا ولا في مناطق أخرى حيث تمت إقامة جمهوريات بيضاء وسط أغلبية سوداء.
صحيح أن ثمة مشروعا إحلاليا ونفيا للوجود الآخر، لكن هذان الإحلال والنفي لم يكونا مصحوبين بروايات تاريخية مزورة حول المكان، روايات تعيد سرد الدين وتشوه تطور الوعي البشري من أجل أن تثبت ملكية غير موجودة في التاريخ. ويمكن بقراءة بعض الكتابات حتى الصهيونية الاستدلال على كل الخزعبلات التي رافقت نمو الفكرة الصهيونية واحتضنت تطور الوعي العنصري. كما أن الأدلة التاريخية واللقى الأثرية لم تجلب شاهداً واحداً على ذلك الوجود غير المثبت إلا في حكايات الغزاة، وفي عقول رواة التاريخ المزور.
إنه الوجود العبثي غير الحقيقي الذي يجعل ثمة يهود فلاشا سود البشرة ويهودا أوروبيين بعيون زرقاء وخضراء وبشرة شقراء يتبنون رواية واحدة حول أصل تاريخي واحد لا يمكن للمنطق أن يصدقه. إنها النزعة الاستعمارية والمشروع الإحلالي الذي يريد أن يسرق البلاد. وفي ظل هذه السرقة فإن تغير الأسماء وخلق روايات وهمية حول تاريخ الأماكن يكون البطل الأساسي لأنه يؤسس لشرعية جديدة.
والتاجر الذي يفكر ببضاعته وكيف يروجها وكيف يسوقها وكيف يجني الربح، لا يهم انه يسوق إلى جانب كل ذلك رواية الغزاة، بل ربما يدافع عنها ويجعها أكثر شرعية من مقدرة المستعمر على فعله.
تقرأ مانجو “نيتساريم” وجوافة المستوطنات وإحالات مربكة في الوعي إلى الوجود العابر. هل أن المانجو والجوافة التي انتشرت في المناطق الخصبة التي كانت تقام فيها المستوطنات قبل تفكيكها أكثر لذة لو زرعناها قبل وجود المستوطنات؟ منطق لا يمت للعقل بشيء، وتباهٍ أعمى بالاحتلال ومديح بلا ضمير لمنجزات ومكتسبات تنسب له تهين الذاكرة الوطنية. البلاد بلادنا والأرض أرضنا وخصوبتها فيها من يومها. أما أن يترك الوعي الشعبي في يد التاجر فهذه جريمة.
هذا عن التاجر، ماذا عن السياسي الذي يسمح بذلك؟ إن كنت تدري فتلك مصيبة وإن كنت لا تدري فالمصيبة أعظم. السياسي الذي يرى كل هذا ويغمض عينيه، السياسي الذي لا يفكر في البلاد إلا من خلال حركته أو حزبه، السياسي الذي لا يختلف كثيراً عن التاجر في سعيه المحموم نحو الكسب، حتى لو ماتت البلاد. البلاد التي لا تتم فيها عمليات مراجعة لأي شيء تذهب إلى الهاوية بإرادة من يملك زمام الأمور فيها. هل يختلف التاجر عن السياسي في ذلك. كلاهما يبحث عن مكاسبه، وكلاهما ينظر تحت رجليه نحو مقاصده، أما البلاد فلها الله.
من المعيب أن نسمح بوجود مثل تلك التسميات التي تعلي من الاستعمار وتمجد الاحتلال وتنسب له كل شهي ولذيذ. هذا يعكس غياب التوجه لحماية الهوية الوطنية وتعزيز مكونات الثقافة الوطنية. ففيما ينشغل السياسي بالخطابة والبلاغة والمنابر حول دحر الاحتلال وتراجعه، فإنه يمر بهدوء وطمأنينة على علامات تواجد الاحتلال، وهي ليست علامات مادية بل الأخطر أنها علامات انحراف في الوعي. ولأنه يريد أن يحافظ على مكتسبات وجوده فإنه ربما يشجع على ذلك طالما كان لا يجلب وجعاً سياسياً أو ميدانياً من أي نوع. وهنا مربط الفرس، إذا غاب الوطن عن قائم المصالح فإن كل شيء يصلح.

Share this Article