غزة والترمادول إلى أين؟ بقلم : هديل ابو مريم

2018/12/03
Updated 2018/12/03 at 8:45 صباحًا


لطالما شغل تفكيري سبب الإقبال عليه من قبل شباب غزة وحتى فتياتها (من تحت ستار)، للدرجة التي جعلت الكثيرين منهم يدمنون عليه. إنه عقار (الترامادول ) أو ( الترامال) أو كما يسميه أهل غزة (الترامان). كأحد الصيادلة الذين كانوا يعملون في حقل الأدوية في مدينة غزة، كنت ألاحظ إقبالا شديدا على شرائه بوصفة طبية أو بدون. كنت أسمع بعض الزملاء يتهامسون بينهم وحتى الأطباء عما إذا جربوه أم لا؟ و إذا جربه أحدهم فإنه يتحدث إلى زملائه الآخرين (همسا) عن النتائج التي حصل عليها وهل كانت مرجوة أم لا.
وهنا يجب أن أعرّف عن هذا العقار الذي شغل شباب غزة منذ العام 2006 وحتى يومنا هذا.
تاريخ العقار وآثاره العلاجية والجانبية:
تم طرح العقار عالميا بواسطة إدارة الأغذية والعقاقير في مارس من العام 1995، وفي العام 2005 طُرح عقار يسمى ال (الترامال) في السوق الصيدلاني في مدينة غزة بقوتين علاجيتين هما 50 مجم، و100 مجم فقط. لم يكن لهذا العقار ذلك الصدى القوي في الصيدليات سوى أنه مجرد عقار مسكن للآلام من المتوسطة إلى الحادة التي تتبع الخضوع للعمليات الجراحية.
الترمادول ببساطة شديدة هو أحد المسكنات القوية التي ينتج عن استخدامها فعالية دوائية تشبه تلك التي تنتج عن مشتقات الأفيون وهو المادة المستخرجة من شجرة الخشخاش “opium poppy” التي تنمو في أفغانستان بكثرة وتستخرج منها الكثير من الأدوية المسكنة والمخدرة مثل “الكوديين” و”المورفين” و”الهيروين”، والتي تنتج فعاليتها الدوائية من خلال عدة آليات كيميائية على مستقبلات “الأفيون” في الدماغ.
كما أن الترمادول يمنع إعادة استخدام هرمون “السيروتونين” من قبل النهايات العصبية في الدماغ وبالتالي يزيد من تركيز هذا الهرمون مما ينتج عنه شعور بالفرح والسعادة. أيضا يعتبر “الترمادول” مقلدا في تأثيره الدوائي “للمورفين”، إذ يعمل على نفس المستقبلات الخاصة ب”المورفين” في الدماغ. ولأكن أكثر دقة، فإن “الترمادول” ليس هو المسؤول عن العمل على مستقبلات “الأفيون” في الدماغ، بل المستقلب النشط “active metabolite”، وهو أحد المواد الناتجة عن “الترمادول” داخل الجسم نتيجة العمليات الكيميائية التي تحدثها عمليات التمثيل الدوائي والغذائي، والذي يتفوق على المادة الأساسية بقوة (700 ) مرة عندما يعمل على مستقبلات “المورفين”.
هناك عدة آليات لعمل “الترمادول” كما ذكرت سابقا لكنها ليست من ضمن الآليات التي يمكن للقارئ العادي أن يفهمها. لذلك من المهم معرفة الآليات التي تم ذكرها لمعرفة التأثيرات والنتائج لهذا العقار. اذ تصاحب تناول هذا العقار العديد من الأثار الجانبية شأنه شأن أي عقار آخر، وعلى عدة أجهزة في الجسم، أذكر منها تأثيره على الجهاز الهضمي، إذ تتسبب الجرعة العلاجية بالرغبة في التقيؤ، سوء في الهضم، فقدان للشهية وصداع. أما تأثيره على القلب فهو يسبب سرعة في ضربات القلب وانخفاض في ضغط الدم عند الوقوف. كما يؤثر بشكل مباشر على المسالك البولية و يسبب احتباسا للبول، ناهيك عن آثاره الجانبية الكبيرة على الكبد.
بدأ وصف هذا العلاج مثله مثل أي عقار جديد له مسوقيه وله الأشخاص المستفيدين من بيعه ، ألا و هم شركات الأدوية والمستودعات الطبية، والصيادلة. ولكن سرعان ما تحول هذا العقار إلى حديث الساعة خصوصا بعد العام 2007 وما آل إليه قطاع غزة من مشاكل اجتماعية نجمت عن الانقسام الفلسطيني، الذي شكل منعطفا خطيرا في حياة المجتمع الغزي.
أصبحنا نرى الغالبية من فئة الشباب يتعاطوه وبوصفات مختلفة. من ضمنها (والتي عرفتها من حديث دار بين أحد الشباب في سيارة تاكسي)، أنه يتم تعاطي هذا العقار مع كوب من الشاي الثقيل المحلى جدا بالسكر، ذاكرا أن الحبة تعطي أقصى مفعولها من النشوة والفرح والسعادة مع هذه الوصفة. منهم من كان يأتي للصيدلية وتحديدا قبل الذهاب إلى حفلات الشباب التي تقام في الشوارع، إذ يعتقدون أن لها مفعولا سحريا بمقاومة التعب خصوصا مع القهوة.
بعد ذلك تم تحليل عقار “الترمال” في أحد المختبرات الجامعية، فكانت النتيجة أن العقار الذي يدخل إلى القطاع، يتم بإشراف شخصيات اعتبارية أو شخصيات تربطها علاقات قوية بها، او من خلال الأنفاق من جمهورية مصر العربية، وهو عقار يحتوي بنسبة كبيرة على “الليزيرجيك أسيد Lysergic acid “، وهو أحد المواد التي تؤثر على مستوى الوعي، وبالتالي تغيرات في السمع والبصر.
عرف هذا المركب الكيميائي باسم “psychedelic” أي المخدر، وهذه الكلمة مشتقة من اليونانية القديمة وتعني (تجليات الروح). المهم أنه تم طمس نتائج التحليل هذه ولم نعد (نحن العاملين في مهنة الصيدلة) نسمع أي اهتماما يتعلق بذلك.
استمرت الظاهرة بالتفاقم، ارتبط اسم “الترامال” بارتكاب العديد من الجرائم، والتي كان يعترف فيها المجرم أنه كان تحت تأثير عقار “الترمادول”، حتى جاء ذلك اليوم من العام 2015 الذي تكرم فيه وزير الصحة في حكومة قطاع غزة وأصدر (فرمانا) يقضي بموجبه حظر صرف عقار “الترمادول” بدون وصفة طبية مختومة من طبيب له رقم ترخيص لمزاولة مهنة الطب في غزة و تم توزيع هذا التعميم على جميع الزملاء والزميلات.
المضحك المبكي في الموضوع أن “الترمادول” كعقار ومن خلال ما تم ذكره آنفا بم يتعلق بآليات عمله، لا يفسر كل هذا الإقبال الواسع عليه والذي أصبح ظاهرة بل آفة اجتماعية خطيرة تستوجب الوقوف عندها.
وما يثير السخرية أيضا أن جميع الصيادلة تقبلوا ونفذوا ما جاء في هذا التعميم فقط على “الترمادول” الذي يتم الحصول عليه بطرق رسمية وقانونية من خلال شركات الأدوية والمستودعات الطبية القانونية، لكن لم يطبق وبكل أسف على “الترمادول” الذي يأتي من تحت الأرض من خلال تجارة الأنفاق عبر جمهورية مصر العربية. هذه التجارة التي جعلت شبابا مراهقين يتحدثون عن مئات من ألوف الدولارات في حساباتهم البنكية.
وبالعودة لاستخدام عقار مثل “الترمادول” والذي يوصف هنا في أوروبا، بسبب قوته، قاتل للألم. عودة لاستخدامه من قبل شباب غزة لعلاج أتفه وأقل الآلام، فإن هذا له دلالة خطيرة، هي أن هؤلاء الشباب لم يعد بمقدورهم التحمل أكثر، ولم يعد لديهم حتى أدنى قوة يواجهون بها أي ألم ولو كان صداع رأس. وقد يرد أحد القراء:
– ماذا عن أولئك الشباب الذين يذهبون إلى مسيرات العودة كل جمعة، ويتحملون أبشع أنواع الألم من قبل الآلة العسكرية الصهيونية الهمجية.
– أرد أيضا هو نفس السبب الذي جعل شباب غزة يكفرون بتلك الحياة التي تشبه الحياة، إنه الألم اللامنتهي الذي يقابله انعدام الأمل.
وترفورد/ ايرلنداماجستير صحة نفسية ومجتمعية

Share this Article