د. حنان عوّاد وردةُ فلسطين الجوريّة في سيرتها المَلحَميّة

2021/09/06
Updated 2021/09/06 at 9:25 صباحًا

 

أمد/ قليلون الذين يرتبط اسمُهم وعملُهم ونضالُهم وإبداعُهم وتميّزُهم باسم الوطن والقائد، ويكون التّكامل بينهم والتّلاحم حَدَّ التّماهي فيكون الواحدُ للثاني العاشقَ والمعشوق والإلهَ والمعبود والمُعِلَّ والمَعْلول، لا يكون الواحدُ بدون الثاني، هم خلاصة الثالوث المقدس، يتوزّعون على ثلاثة وهم واحد، لهم تمتدّ الأعناقُ مَشوقة وتُرهف الآذانُ مأخوذة وترصدُ العيونُ مسحورة. تُنْشدُ رابعة ترانيمَ عشقها فيهتزّ عرشُ السّماء وتوقظُ ربَّ العباد فيترجّل الفارسُ العاشقُ آخذا بيد رابعة مُنطلقا بها بين سهوب وهضاب ومَفازات الوطن الرّحبة مُردّدا على مسامعها أنشودته التي طالما أسمعها إيّاها:

-ماذا كان سيحدث، وأيّة حياة رَغْدة كانت، لو كُنّا نحيا واحدُنا بجانب الثاني في هذا الوطن الرّحب؟ أيّ سعادة كانت تجمعُنا لو كنّا نملك ستّة أطفال.. نوّارة هذا الكون الرّائع؟ لو أنّكِ ، لو أنّي، حَضَنّا ترابَ الوطن وذُبنا في أعماقه.

هكذا تكرّست حنان عوّاد ابنة القدس منذ وُلدَت لتكون وردة فلسطين الجوريّة ورابعة الفلسطينية، مجنونة فلسطين ومجنونة فارسها المعبود الذي لا ثان له. لهما رَصدَتْ حياتَها وبهما تقدّسَت.

تستعرضُ حنان في صفحات سيرتها الأولى “ذاكرة التّرَف النّرجسيّ. مكتبة كل شيء حيفا2021” تفاصيل طفولتها ومَجرى حياتها بين أفراد أسرتها المُحبّة. الوالد الرّائع الذي يعمل بجِدّ ويُوفّر المال والحياة الكريمة والحريّة لأسرته، ولا يبخل بماله ليُقدّمه للمُحتاج وللمشاركة في دَعم الأعمال النّضاليّة الشعبية المختلفة. والوالدة المُحبّة التي تذكرها بابتسامتها الدائمة ودعَواتها المتلاحقة ليكون الربّ راعيها، والإخوة والأخوات الذين تُوزّع عليهم حبَّها. وتتذكر أيام دراستها في المرحلة الابتدائية والمرحلة الثانوية والبركان الذي حلّ بالبلد والقدس مدينتها الحبيبة وهي تتقدّم لامتحانات التّوجيهي نهاية المرحلة الثانوية باحتلال الجيش الإسرائيلي للقدس ولكل أراضي الضفة الغربية وغزة والمرتفعات السورية وسيناء المصرية في حزيران عام 1967. والصّدمة الكبيرة التي أصابتها ورَدّة الفعل التي واجهت بها هذا الحَدثَ الرّهيب. فبالإضافة إلى الأعمال التّطوعيّة والفَعاليّات المتنوعة التي شاركت فيها اهتمّت حنان، بتشجيع والديها لها، بمتابعة دراساتها العليا، ودرست في الوقت نفسه في “جامعة بيروت العربية” وفي “جامعة الأزهر” في القاهرة للحصول على اللقب الجامعي الأوّل. وبعدما منَعتها سلطاتُ الاحتلال من مغادرة القدس التحقت لدراسة الماجستير في “الجامعة العبرية” في القدس. ثم التحقت فيما بعد بجامعة “أكسفورد” في بريطانيا وجامعة “ماكجيل” في كندا لنَيل لقب الدكتوراه.

عملت حنان في الصحافة الوطنيّة وكانت لها زاويتها الأسبوعية تطرح فيها آراءها وأفكارها في مختلف القضايا، وكان للغتها الرّاقية وأسلوبها الرّشيق الجميل وقعُه الخاص على القارئ أيّا كان. كما تميّزت بقصائدها الجميلة التي كانت تنشرها وتُنبّه النُّقّاد والأدباء إلى ولادة شاعرة تحمل رسالة وفكرا وشعرا مُتميّزا، وتنثر الرّوحانيّات الصوفيّة مُكرّسة حياتها ووجودها وفكرها للفارس الذي تنتظرُه ليكون المخلّصَ والمحرّرَ والآخذَ بها إلى عوالم الفردوس القُدسي حيث يكون التّوحّدُ والتّماهي بين العاشق والمعشوق في وطن هو الجنّة الموعودة التي اسمها فلسطين.

وخلال دراستها اجتهدت حنان للمشاركة في كلّ الفعاليات الطلابية التي تخدم قضيّتها الوطنية، فشاركت في العديد من المؤتمرات، ومثّلت فلسطين في العشرات من اللقاءات العربية والأجنبيّة.

وبعد إتمام دراستها وحصولها على لقب الدكتوراه عملت في التدريس الأكاديمي في جامعات الضفة الغربية والقدس العربية، وتفرّغت للعمل السياسيّ مُمثّلة لفلسطين وللرئيس ياسر عرفات شخصيّا في كلّ الحَلَبات الدّوليّة.

حنان عوّاد كما أعرفها فتاة ليست كباقي الفتيات. شَقّت لنفسها منذ صغرها طريقَين لا تحيد عنهما أبدا: حبّ الوطن وحبّ الفارس الموعود.

ولم يُشغلها في حياتها، منذ انطلاقها في مَسالك الحياة بعد تخرّجها من المدرسة الثانوية، غير الوطن والفارس المعشوق. وأوقفت حياتها وتعبّدت في مَعبدها القُدسي مُتّخذة لنفسها مُسوحَ الصّوفيّة، مُتقمّصَة شخصيّة رابعة العدوية لتكون رابعة الفلسطينيّة السّاعية للتّوحّد والتّماهي بالوطن وبفارس الفرسان، الإله المعبود المُنتَظَر لتحرير الجنّة الأسيرة من قيد الطغاة ليلتقي بمعشوقته رابعة، ويرفلا بنَعيم الجنّة المُحرّرة التي اسمُها فلسطين.

حنان في سيرتها التي تمتدّ على 476 صفحة من الحجم المتوسّط والحرف الصغير نسبيّا تأخذ بالقارئ ليتعرّف على مختلف جوانب حياتها وفكرها وطموحاتها، كاشفة كلّ أوراقها، مُؤكّدة على مصداقيّتها ومُشْهدة مختلف الشخصيّات التي نعرفها  وتتداولها وسائل الإعلام، وكانت حاضرة وشاهدة ومُشاركة في ما تقوله.

وزّعت حنان نفسَها واستعدّت للمُواجهة وخوض التّجارب على مختلف الجبَهات التي اختارتها في حياتها:

الأُسْرة الخاصّة

وقد ولدت وترعرعت في أسرة مُرَفّهة غنيّة محبّة وطنيّة تضع القضية الوطنية وحبّ الوطن في المقدّمة. الوالد المثقف الوطنيّ أحبّ أفراد أسرته ودعمهم في حياته ودفعهم للدّراسة والتّقدّم في مَراتب العلم، أعطاهم مَحبّته وثقته وتركهم يخوضون تجارب الحياة ودروبَ النّضال وهو يشدّ من أزرهم ويمدّهم بكلّ ما يحتاجون، وقد كان لحنان مكانتها الخاصّة عند والدها فباركها في كلّ خطواتها وكان مُرافقها وراعيها وحارسها حتى آخر لحظات حياته. كذلك حظيت بمحبّة الوالدة والأشقاء والشّقيقات.

تألّقت حنان في كلّ مَراحل دراستها وكانت المتميّزة والمتفوّقة والقادرة على الالتحاق بأكثر من جامعتين في الوقت نفسه مثل دراستها في جامعة بيروت العربية وجامعة الأزهر معا وحصولها على شهادة البكالوريا B.A، وجامعة أكسفورد في بريطانيا وجامعة ماكجيل في كندا للحصول على لقب الدكتوراه. وبعد أنْ منعتها سلطات الاحتلال الإسرائيلي من السفر التحقت بالجامعة العبرية في القدس ودرست للحصول على شهادة الماجستير في اللغة العربية، وقد كانت زميلتي خلال فترة دراستها للقب الثاني M.A في القدس.

نجحت حنان في كلّ مراحل دراستها، واكتسبت احترام المدرّسين وتقديرهم، وربطتها بهم صداقة ومودّة.

عملها في الصحافة وإبداعها الشعريّ المتميّز

مواهب حنان الإبداعيّة والذّكاء والتّوقّد والموهبة الطبيعيّة وامتلاكها اللغة العربية بكل جماليّاتها وكنوزها وإتقانها للعديد من اللغات الأجنبيّة وفّرت لها أن تكون المتفرّدة في إبداعها الشعريّ وفي عملها الصحفيّ، ولتصبح صاحبة القصيدة والكلمة والموقف الذي له ثقلُه في الشارع ولدى أصحاب الشأن والمسؤولين فتنبّهت لها العيونُ والقلوبُ والأذهان وأصبح اسمُها يتردّد في المجالس وعند ذوي الشّأن في مجالي الثقافة والسياسة.

علاقاتها بالرّموز الفلسطينية

استطاعت حنان بذكائها وتميّزها وقدراتها ونجاحاتها أن تصبح الصديقة المقرّبة للكثيرين من الرموز الفلسطينية والثقافية وفي مقدّمتهم الرئيس ياسر عرفات والشهيد خليل الوزير أبو جهاد. وهكذا فُتحت لها كلّ البوابات والأبواب الفلسطينيّة والعربيّة والأجنبيّة وأصبحت رسولة  فلسطين ومُمثلة القيادة الفلسطينية والمُتكلمة نيابة عن الرئيس عرفات في الكثير من المؤتمرات والنّدوات والمناسبات الثقافية والسياسية، وأصبحت المندوبة المحروسة من الرئيس عرفات نفسه والتي يتسابق الآخرون لتقديم الخدَمات وتسهيلها لها.

لقاؤها الرؤساء والشخصيّات المهمة

التقت حنان الكثير من الرؤساء والشخصيات العربية والأجنبية الذين تضامنوا مع نضال الشعب الفلسطيني ومنهم الرئيس العراقي صدام حسين والرئيس الليبي معمّر القذافي والرئيس اليمني علي عبد الله صالح   والرئيس العطاس والرئيس الروماني شاوشيسكو والرئيس الكوبي كاسترو  ورئيس جمهوريّة مالي كوناري. والكاتب المشهور خوسيه سراماجو، وغيرهم كثيرون.

وكثيرا ما كان الرئيس ياسر عرفات يقول عنها لمَن يُجالسُه: هذه المرأة تُعادل آلاف الرجال”(ص426) ويصفها بالجَدعة “هذه البنت جَدعة” (ص261)

 

علاقاتها الخاصة بأبي جهاد والرئيس ياسر عرفات

كانت علاقة حنان عواد مُميّزة بأبي جهاد خليل الوزير فهي على اتصال دائم معه، وتلتقيه الكثير من المرّات، وفي العديد من المناسبات حتى أصبحت ابنة بيت وصديقة العائلة ممّا جعلها تكون صاحبة المُهمّات الصّعبة ومندوبة فلسطين الأولى.

أما علاقتها بالرئيس ياسر عرفات الذي حلمَت به في أوّل شبابها، وانتظرته فارسا يأتيها يعتلي حصانه الأبيض، فكرّست له حياتها وأوقفتها عليه وخصّصته بقصائدها المفعمة بالعشق الصوفيّ فابتدأت بالتّعارف البَعيد والاتّفاق شبه الشامل في كلّ المواقف والنّضالات من خلال اطّلاعه على مقالاتها وقصائدها ومقابلاتها الصحفيّة التي تنشرها الصّحف ونشاطاتها السياسيّة والثقافيّة والتّنظيميّة المُكثّفة ، فكانتْ صوتَه المُدافع المُؤيّد، ورسوله غير المسمّى في كثير من المواقف واللقاءات حتى كان وسافرت إلى الكويت بناء على تعليمات أبي جهاد وهناك كان اللقاء بياسر عرفات حيث استمعت مع غيرها لخطابه القصير ثم طلبت من القيادي عزّام الأحمد أن “خُذني إلى أبو عمّار ثانية” وقدَّمَني إليه قائلا : “هذه حنان عوّاد” رحّب بي كثيرا وعانقني قائلا لعزام ” انا أعرف حنان قبلك، عرفتُها من كتاباتها قبل أن ألقاها في العراق، ثم أضاف:” ولكن لم أكن أدري أنّها بهذه الرّقة”. ولما انتهى حفل الاستقبال، طلب الرئيس حضوري إلى قصر الرئاسة”.

وتقول حنان معبّرة عن الفرحة التي تملّكتها بدعوته إليها وتحقيق حلمها الذي طالما راودها “كان يوم تمنّيتُ أنْ القاكَ، وكلّما صفّقت أجنحتي لتطير إليكَ، كانت خطواتي تفوق البرق.” وتبوح رابعة بكل حبّها للفارس القدسيّ ” إذا كان للمحبّة تعريف، فهو يبدأ منكَ، وإذا كان لنا أن نكون في عبير الأمنيات وتجلّيات الوقائع، فأنتَ الذي صُغتَ الواقعَ بكل دلال الجمال الذي لا ينطفئ نورُه. وبعد صمت وتفكّر في حضرة الفارس الإله قدّمتُ إشارات الفكر الإلهي في المعنى المطلق للحبّ قائلة:

– يا والدي، قالت رابعة العدويّة وهي تُناجي الذّات الإلهيّة بوميض الرّوح والانتماء، وبإشراقة الحنين الوضيء:

“أحبّكَ حُبّين،

حبّ الهوى، وحُبّا لأنّكَ أهلٌ لذاك”

أمّا أنا، فأحبّك لثلاث

حبّ الوطن

وحبّ الهوى

وحُبّا لأنّكَ أهلٌ لذاك”.

 

اغرورقت عيناه، وقدّمتُ إليه خارطة فلسطين الذهبيّة التي كانت على عنقي، وقدّم لي خاتم ماس، وطلب أنْ أكونَ في رعاية خاصّة”. (ص212-213).

وفي لقاء آخر سألني عنّي وهل أنا مرتبطة؟ طأطأتُ رأسي وتحرّكت عَيْنيّ بومضات صوفيّة بنداء المناجاة قائلة:

-طالما أنتَ لا زلتَ غير مرتبط، سأكون مثلك. وسألتُه: مَنْ يُحبّني حبّ الأنبياء؟ وتابعتُ: أيّها النّبيّ الذي أحبّني وآمن بي، لا أعدكَ شيئا إلّا الوفاء. أقول لك إنّ حبّنا تجربة خاصّة تُكتَبُ فوق الرّمال، وفي صحراء التّيه، وهي غير قابلة للكسر وللتّداول والتّجريب. لعلّها خُلقَت لنا، لنا وحدنا فقط. وهي لا تنتهي بانتهاء الوقت، ولا بعوامل الصّمت. إنّها سرّنا الإلهيّ الخَفيّ الذي لا يراه سوانا، لأنَ الرّمال تتشكّلُ تحت حبّات المطر، وتعود لترسم صورة الحبّ دوائر عنقوديّة تُشكّل لوحاته”. صمتَ ونظر إليّ طويلا بكلّ الحنان الوضيء.” (ص249)

هذه العلاقة الفريدة الخاصّة التي حلّقت في أجواء الصّوفيّة والتّوحد والتّماهي بين الثالوث المقدّس “رابعة والفارس النبيّ والوطن” كانت نهايتها المأساويّة سريعة وقاسية مُخلّفة بعدها الجراح والآلام العميقة. فقد وقعوا ضحيّة مؤامرة عالميّة شارك بها الجميع. “الزّمن لم يعد رماديّا بل تغطّى بالسّواد” هكذا تقول حنان (ص397) “ولا صوت يُسمَع سوى وقع خطى المُحتَلّ. الدّبابات تتوجّه إلى المقاطعة، وكتائب الجولاني تتوجّه إلى مَقرّ الرئاسة. الطرقات تئنّ، أثقلتها حمولات المدرّعات ووقع خطى الجنود، مَشاهد لا تُصدَّق، أصوات الدّبابات ترتفع أكثر، وصوت الجنازير على أرض المقاطعة تحمل الدّمار.

واشتدّ الحصار وطال، وكان السّؤال المرّ الذي طرحته حنان “ماذا يمكن أنْ يفعل رئيس مُحاصَر أمام برنامج تدميري اقتلاعي، وأمام دور غائب للقوى المناضلة في العالم، وأمام انكسار في الموقف العربي. الغياب المتعمّد لزعماء الأمة العربية كان صادما ومقلقا. (ص412). وتصرخ حنان بألم: “أين المفكّرون وأهل الرّأي؟ أين الكتّاب المُلتزمون الذين حملوا أرواحهم على راحاتهم؟ أين الكلمة؟ هل غادر الشّعراءُ الأنقياء، وتبعثرت الرّواية وسُمّمَت الحكاية؟  وأطلق شعار الزّيف. وحمَله الكثيرون في سلالم الخوف؟ أينَ القادة السّادة؟ أين اليقين؟ غاب الرّفيق والصّديق، وتوارت أصواتُ الزعماء والرؤساء، وابتدأت مباراة السّكون، والصّمت على ما كان. ما جرى ليس أسطورة أنتجها المبدعون! ولا كابوسا تراءى في أحلامنا! ولا خرافة رُوِيَت لنا! بل حقائق مفروشة على أرضنا” (ص 440)

وكما الجميع، هكذا حنان كانت لا تتصوّر أن يقترب المرضُ أو الموت من الرئيس ياسر عرفات “كنتُ وكُنّا دائما ننفي عنه المرض، ولم يرد بذهننا يوما، بأنّنا ممكن أن نفقد قائدنا، رغم إدراكنا لكُنْه الحياة. فقد كان لنا خالدا مُخلّدا لا يُصيبُه الضّيم ولا الألم، يُطلّ شامخ الهامة بأَلَق دائم موصولا بالمجد. إنّها النظرة الإلهيّة التي رسمناها له.”(ص457)

وعندما أخذت الطائرة ترتفع في السماء تحمل الرئيس في رحلته الأخيرة للمعالجة في باريس تساءلت حنان: “هل سيعود إلينا ثانية فارس فلسطين؟”(ص462)

وكانت النهاية وكان الخبر المؤلم أنّ الرئيس ياسر عرفات فارقَ الحياة وانتهت الملحمة وهو يُشَيّع من الآلاف المؤلّفة ليُوارى تراب فلسطين ويختتم سفرا مشرقا من تاريخ هذه البلاد وهذا الشعب. وحنان تتابع المشهد بألم الثاكل وترجو وتنادي فارسَها الرّاحل إلى اللاعَوْدة:

“لا تُغادر

لا تُغادر.

امنحنا هيبتَنا فيك

امنحنا سُوَيْعات أخرى

لا تُغادر.”

وإذ ترى جثمانَه يُوارى التراب وتُدرك الحقيقة الحارقة تهمس حزينة باكية:

“وداعا أيّها الرجل الأغلى قاهر المستحيل

وسلاما إليكَ

رجلا معجزة

فيضا،

خلودا،

ويقين انتماء.

أنت مولود فينا عند كلّ فجر

وعند كلّ أمنية

فلن يكون فراق

لن يكون فراق”(ص470-471).

 

انتهت ملحمة العشق الإلهي، وانحلّ ثالوث الحبّ القدسيّ، وتوارى الفارس في رحلة الغياب، وعاد الوطن ليُعاني من قيود الاحتلال، ورابعة العَدويّة العاشقة الأبديّة لا تتوقف عن إنشاد  ترانيم العشق الصوفيّة الموجّهة للفارس الغائب علّه يسمعها ويعود.

 

وتظلّ نرجسيّة حنان المُثيرة والمُحيّرة للكثيرين

وهي منذ وعت الحياة وواجهت الواقع الدّامي وشاهدت ما يحيق بالأهل والوطن، اختارت طريقَها وترصّدت أخبار الفارس المُتقمّص ثوب النبوّة المتنقّل من مكان إلى مكان لرَفع معنويات الناس وإعدادهم للأيام القادمة، ولمّا أيقنت رحيله أملت في عودته وعاشت حياتها انتظارا واستعدادا حتى أصبح مع الأيام والسنوات هاجسها وشاغلها ومكونا متمّما من وجودها الماديّ والمعنوي والفكريّ فتوحّدت به وتماهت وعقدت عهدَها معه على حبّ الوطن ليكوّنوا الثالوث المقدّس.

هكذا كبرت حنان وهي على يقين أنها مكوّن من الثالوث المقدس، لا كيان لها وحيدة ولا غد ولا قيمة. فكانت تنمو وتكبر وتصلب عودا وتزداد معرفة وثقافة وجديّة وهي تعيش مع ذاتها معجبة بنفسها عاشقة لذاتها لأنها في ذلك تتوحّد بالفارس العائد وبالوطن المُوحّد.

لم تُعر ملاحظات الغير أيّ اهتمام ولم تُثر فيها كلماتُهم المُعجبة المُغرية، هي تعيش مع ذاتها في نرجسيّتها التي ترى فيها فارسها العائد وجنّتها الموعودة، عشقُها لفارسها هو عشقُها لوطنها وعشقُهما هو عشقُها لنفسها، تقول حنان: هل حقّا أنّنا نحن نحبّ؟

أم أنّنا نحبّ صورتنا في الآخر؟ فهي ليست وحيدة، في داخلها يتماهى الثالوث المقدّس ولا ما يُشغلها عن ذاتها، فهي مكتفية قانعة، ففي اكتمال ذاتها ترى فارسها وفي عشقها النبي الإله ترى ذاتها وفي وطنها ترى الجنة التي تحيا وفارسها فيها. هكذا تكبر نرجسيّتها وتتعمّق وتزداد تعلّقا بذاتها وحبّها لنفسها، لأنّ في ذلك حبّا للحبيب وانصهارا في الثالوث المقدّس حيث تشدو رابعة الفلسطينيّة ترانيم الحبّ الإلهي في عشق الإله المعبود، وتسبح مع فارسها مُحلّقة في جنة الخلود التي تضمهما.

هذه هي نرجسية حنان في توحّدها بفارسها المعشوق والعاشق لها. وهكذا كما تعترف، بدأت نرجسيّتُها تتشكّل براعمها التي تحوّلت إلى شجرة باسقة وارفة الأغصان.(ص484)

تقول حنان: ” هكذا تشكّلت فلسفة الحبّ لديّ، الحبّ العذريّ التصوّفي آفاقه كما رسمتها، وفي حضور الروح وانعكاس الهوى بأريج النفس المتيممة في رؤية الذّات في الرّوح الأخرى ، ندرك أنّ العشق رسالة إلهيّة مغزولة بخيوط حريريّة.

في خاتمة الكلام

ذكاء حنان عوّاد وحنكتها برزا في اللغة الجميلة الرّاقية السلسة الجاذبة وفي تلاعبها بالمفردات والتّعابير، وحسن استعمالها للمّجاز والتّورية في ستر ما تريد الكشف عنه أو التّعمّد للتّلميح والإشارة والدّفع للبحث والتساؤل عمّا تُخفيه وراء الكلمات التي تبدو عاديّة بسيطة ولكنها ترمي للبعيد البعيد. كما نجحت أن تحتفظ للفتاة الجميلة الأنيقة المثقّفة المتحرّرة شخصيّتها المستقلّة القويّة في مَجالسها ومُحاوراتها ومُحاولات العديد من الرّجال الذين التقتهم، ومعظمهم ذوي شأن ومركز وعلم، التقرّب منها واكتساب ودّها. لكنّها أدركت وبحسّ الأنثى أنّ الرّجل هو الرّجل في نظرته للأنثى خاصة وهي تستمع لأحدهم من ذوي الشأن والمكانة وهو يسألها مستغربا مُستميلا:

-أنتِ شاعرة رقيقة ومفكّرة كبيرة، وأهمّ من ذلك امرأة مكتملة الأنوثة، لماذا تُغرقين نفسَكِ بالسياسة، وتتركين المرأة فيك بعيدا؟”

وأخذت تشرح له أهميّة الدّفاع عن الوطن والتضحية لأجله، ولم يقتنع وأعاد الملاحظة في جلسة أخرى. وتقول حنان: كانت ردودي دبلوماسيّة ورمزية، وغلّفتها بالرّؤيا الفلسفيّة، ونظريات الفكر التي استغرقتُ وقتا في التّحليق بها، وطرحها برؤية ومفاهيم الأنوثة بنظري، والتي لازمتني بمَسلكيّتي الثوريّة، وحافظتُ عليها خلال مسيرتي.

وتقول حنان: الحقيقة أنّ الكثير من الأصدقاء وجّهوا إليّ هذه الملاحظة، بشكل مباشر أو بالتّلميح، وهم يُدركون ملامح جماليّة الأنوثة في وعيي الذهني والإنسانيّ، وفَيض الرّقّة.” وتؤكّد ” أنّني بوعي المسؤوليّة الثقافيّة والإنسانيّة، وامتداد حضوري في آفاق واسعة، ولقائي بعدد كبير من المثقفين والسياسيين، حرصتُ على روح الأنثى لديّ لأبعدها عن أيّ غبار. وقد جعلتُ من الكلمة الملتزمة والحوار الوضيء طريق المعرفة. عشقتُ الفكر والحوار الجادّ والفلسفة الإنسانيّة، وبنيتُ علاقاتي المعرفيّة والتّعارفيّة على هذا الجانب الهامّ من التّشكّل النّوعي في صورة الصداقة الجادّة المحمولة على أرائك الكلمة والرّوح. (ص280-281)

ولا نتجاهل أنّ علاقة حنان المميّزة مع القائد أبي جهاد والخاصّة مع الرئيس ياسر عرفات الذي كان يحرصُ عليها ويُؤمّن على توفير كلّ حاجاتها ورعايتها التّامة، كانت الأمان الواقي والرّادع لكلّ مُتطاول او مُتوهّم في نفسه الفروسيّة أو الدّون جوانيّة.

الرامة

Share this Article