ثقافة اللادولة أو ما قبلها… بقلم : خيري منصور

2013/05/19
Updated 2013/05/19 at 7:51 صباحًا

17qpt895

يتجاوز مفهوم الدولة الآن التعريفات الكلاسيكية لها، انها ليست فقط الأقانيم الثلاثة من أرض وبشر ونظام، بل هي الفائض الناجم عن حاصل الجمع لهذه العناصر، وقد يكون النشيد بمعناه الرّمزي وكذلك العلم هما هذا الفائض، لأنه يقترن بعاطفة ووجدان قومي وذاكرة، اضافة الى ‘الايمج’ او الصورة التي ينجزها الانسان عن ذاته.
وحين كتب علماء انثربولوجيا منهم بيير كلاستر عن مجتمعات ما قبل الدّولة، كان ميدانهم لإجراء التجارب شعوبا لا تزال في الطور البدائي سواء من حيث نمط الانتاج او منظومة القيم والأعراف، ولأن ما يهمنا في هذا السياق هو ثقافة اللادولة او ما قبلها فإن اطروحة كلاستر كانت من صلب هذا الموضوع،وحظي الشعر لديه بنصيب أوفر لأنه توأم الانسان وافراز شبه عضوي بسبب فطريّته، وعدم خضوعه في بواكيره لقوانين وأطر، لكن الثقافة في تلك المرحلة تبقى اقرب كمصطلح الى جذرها الاشتقاقي سواء في اللغة العربية او حتى الانجليزية، فهي تقترن في معظم اللغات بالزراعة، وهي في العربية وثيقة الصلة بالنخيل والرّماح، حيث يعني التثقيف التشذيب، وهذه المفردة تنطوي على دلالة نقدية صريحة لأن التشذيب هو انتفاء وبالتالي هو حذف للفائض او غير المتّسق سواء في النّخلة او الرّمح.
ورغم ان مصطلح الدولة يطلق مجازا على العديد من التكوينات او التشكّلات الاجتماعية في عصرنا الا ان هناك من هذه التكوينات النيّئة والفجّة ما لم يستكمل نصاب النمّو وفق المفهوم الدقيق للدّولة، والشروط السياسية لدًولًنة كيان ما تبعا للقوانين الدولية هي الاعتراف، لكن هذا الاعتراف لا يحتكم للتاريخ بقدر ما يحتكم للأمر الواقع وصراع القوى السياسية، لهذا لا يصبح كيان ما دولة لمجرد هذا الاعتراف، ومن أطرف ما كُتب عن هذه المسألة ما كتبه ميلان كونديرا عن شفافية الفرد مقابل كثافة الدولة وأعقبه باستنتاج هو أن الدولة كلما صغرت واحست بالضآلة تضخّم نشيدها الوطني، وكذلك تضاعف اهتمامها الشكلي بطقوس بروتوكولية هي بمثابة تعويض عن مفقودات تاريخية وثقافية.
* * * * * * *

هناك ثلاثة ملامح اولية لمجتمع اللادولة او ما قبلها، هي النّمو العشوائي الذي لا يتحول الى تراكم وتضخّم الفردية في عزلات متباعدة، بحيث تبدو علاقاتها اشبه بالمصارعة الحرّة، لكن في غياب الحكم والصفّارة لأن المعادل الموضوعي لهذا الحكم هو ترسيخ أعراف لها قوة القانون ونفوذه، والمثال البريطاني في هذا السياق يبرهن على ذلك، فالقانون لا يمارس نفوذه بالتّدوين فقط.
والملمح الثاني غياب العقد الاجتماعي الذي يحدد الحق والواجب، لأن الباتريارك سواء كان يمثل قبيلة او طائفة او أية جماعة هو المرجعية، وهنا يقول كلاستر: هناك فارق جوهري بين نفوذ الكلام وكلام النفوذ، فالكلام يستمد قوته من منطقه الداخلي واتّساقه في الحالات العادية لكنه يتراجع في مجتمعات اللادولة، فيكون نفوذه تباعا لنفوذ مصدره، وهذا يفسر ان الأحكام التي تطلق في مجتمعات اللادولة لا تقبل الاستئناف حتى لو كان من أطلقها يعاني من اضطراب نفسي !
والملمح الثالث هو عدم اتضاح الحدود بين المهن، خصوصا تلك المنوط بها الأمن وفضّ الاشتباكات، لأن مجتمع اللادولة سرعان ما يستدعي احتياطاته الرّعوية فيهمّش اشخاصا انيط بهم كبح جماح الأفراد عندما يتجاوزون حدودهم.

* * * * * * * *

تلك مجرد مقدمات لنموذج اللادولة كما هو الان في التجربة الفلسطينية، فخسائر الشعب الفلسطيني والى حدّ ما الشعب الكردي من غياب الدولة ما من حاسوب يستطيع احصاءها، لكنها غير مرئية وغير قابلة للرّصد للعين المجردة .
لقد تضخّمت ذات الفرد في غياب الدولة كإطار وبوتقة وتجسيد، وضاعف الشتات من هذا الاحساس، وهنا لا بد من مقترب انثروبولوجي سواء كان اجتماعيا او سياسيا لاستقراء هذه التجربة، فعلى سبيل المثال تجاور المخيم مع المدينة سواء في الضفة الغربية او في العواصم المجاورة لفلسطين بعد حرب 1967، فبدأ المخيم يتمدد باتجاه المدينة زمانيا مقابل تمدد مكاني من المدينة سواء من خلال العمران او أنماط الانتاج او تشكل العلاقات الاجتماعية، فالمخيم بلا خيام، لهذا احتفظ باسمه وفقد دلالته المكانية والعمرانية على الأقل، اما تمدده الزماني نحو المدينة فهو انتقال عدوى الترقب وانتظار العودة الى المدن التي لم تهاجر ولا تنتظر العودة الى مكان آخر.
تمدد القلق والترقب والاقامة في المسافة من المخيم الى ما يجاوره، لكن نموه خلال ستة عقود أفضى بالضرورة الى ان يتماهى مع المدينة من حوله، في المسكن والتجارة والاسواق والتقاليد الاجتماعية.
والمفارقة هي ان الثقافة قدر تعلقها بهذه الظواهر بقيت في مكانها، وهذا ما يفسر على سبيل المثال استخدام شعراء فلسطينيين وعرب للاسطورة اليونانية ومحاولة توظيفها تاريخيا، ولو اخترت نموذجا لذلك اسطورة بنيلوب والتي كتبت من وحيها عشرات القصائد لوجدت على الفور ان هناك خللا جذريا في وعي التاريخ باعتباره جغرافيا متحركة او الجغرافيا باعتبارها تاريخا مُتًخثّرا او متصلّبا في تضاريس .
فالشعب المطرود من ارضه تبعا لهذا التصور هو بنيلوب التي تغزل على الشاطى والعودة هي عوليس الذي ضاع في البحر، ما اخطأ به هذا التناول هو بالضّبط ما أتقنه ريتسوس اليوناني عندما سخر من انتظار بنيلوب لعوليس، لأنه جعل عوليس يعود لكن بعد عقود وقد شاخ وفعل فيه الزمن الكثير.
في النموذج العربي ثمة تجميد للتاريخ بحيث يغيب عوليس ستين عاما في المخيمات والمنافي ثم يعود كما هو في ذروة عنفوانه وشبابه، وهذا بحدّ ذاته افتضاح لوعي سالب.
ريتسوس ذهب الى ما هو أبعد وجعل بنيلوب تندم على انتظارها، وعلى الفرص التي اضاعتها في انتظار عقيم.
غسان كنفاني وحده من لامس هذه الموضوعة بحسّ نقدي وسياسي فائق لكن في رواية وليس في قصيدة، هي رواية عائد الى حيفا التي جعلت من الطفل الفلسطيني المنسيّ من ذويه ضابطا اسرائيليا بعد عام 1948، لهذا ينكر اهله الذين ذهبوا للبحث عنه عام 1967 ويختار اخيرا ان يكون ذلك الضابط الذي ينتسب الى من احتضنوه وربّوه وليس لمن تركوه رغم انه من صلبهم.

* * * * * * * *

واذا كان للأدب بمختلف اجناسه تجليات واطروحات يقاس من خلالها منسوب الوعي بالدولة فإن ما يثقل اللادولة من أعباء بيروقراطية وبروتوكولية تستهدف التعويض والاستعراض من أجل الترميمي يمكن رصده بسهولة، سفارات تغدق على مبانيها وسياراتها ومظاهرها بقدر ما تُقتّر على مواطنين قد لا يستطيعون الوصول الى أعتابها.
ان الثقافة في مجتمعات اللادولة او ما قبلها نموذج آخر للعشوائيات وهي فصائلية او فسائلية كما سخر منها محمود درويش، حيث يسطو مفهوم القبيلة او الجماعة على مفهوم الدولة، ويبلغ فقه الخصخصة ذروته في تحويل الثقافة الى غنائم دون ان يعي المشتبكون على هذه الغنائم انها اشلاء ما تبقى من وطن !

القدس العربي .

Share this Article
Leave a comment

اترك تعليقاً