استراتيجية جديدة للفلسطينيين؟

2013/10/30
Updated 2013/10/30 at 11:35 صباحًا

214193


وضع العقدان الأخيران من المفاوضات الثنائية التي لم تسفر عن التوصل إلى اتفاق سلام نهائي عبئاً كبيراً على السياسة والمجتمع الفلسطينيين. وإذا كان ما يزال بالوسع التحدث عن إجماع وطني فلسطيني مؤيد للمفاوضات، فإنه يتلاشى بسرعة. وبدلاً من ذلك، يدعو المزيد والمزيد من الفلسطينيين إلى إحداث تغيير في الاستراتيجية والمنهج. ولهذه الدعوات تأثير مباشر على عملية السلام في الشرق الأوسط، والتي لا تستطيع القيادة الفلسطينية، ولا الاتحاد الأوروبي بوصفه راعياً وداعماً رئيسياً، أن يتجاهلاه.
على الرغم من كافة الاتفاقيات والوعود التي قُطعت على مدى السنوات العشرين الماضية، أصبح الفلسطينيون أقرب قليلاً جداً فقط من تحقيق أهدافهم الاستراتيجية الأساسية، والتي تعرَّف بشكل فضفاض بأنها وضع نهاية للاحتلال الإسرائيلي، تقرير المصير؛ وإيجاد “حل عادل” لمشلكة اللاجئين الفلسطينيين. كما لم يتحسن الوضع على الأرض في المناطق الفلسطينية المحتلة بطريقة يعتد بها.
بالنسبة للكثير من الفلسطينيين، أصبحت الحياة أصعب -وهي بعيدة كل البعد عن مكاسب السلام الموعودة. أصبحت القيود المفروضة على الحركة والتنقل والإغلاقات هي العرف السائد؛ ونمت الفوارق الاجتماعية، وما تزال معدلات الفقر عالية، وحلقت الاعتمادية على المساعدات الخارجية إلى ذرى جديدة؛ والرابطة الاجتماعية القوية التي طالما أسندت الفلسطينيين ذات مرة خلال أصعب وأقسى فترات الاحتلال تلاشت إلى حد كبير، وحلت محلها نزعة فردية المتفشية، في تضاد مع الوضع الاقتصادي الهش الذي يجد المعظم أنفسهم فيه الآن. ويحذر الكثيرون الآن من الآفاق المتلاشية للدولة الفلسطينية، على خلفية إيقاع البناء الاستيطاني الإسرائيلي السريع على مدى العقدين الماضيين، بينما يستمر الانقسام السياسي المرير بين حركتي فتح وحماس في إضعاف قدرة أي من الفريقين على الخروج باستجابة سياسية فعالة للتحديات الكثيرة التي يواجهها الفلسطينيون.
لم يقم فشل المفاوضات الثنائية فقط بحتّ ثقة الجمهور بعملية سلام الشرق الأوسط، وإنما ألحق أذى بليغاً أيضاً بمصداقية القيادة الفلسطنية، التي طالما قرنت نفسها بهم ووضعت نفسها في حلفهم. وبينما تستمر أغلبية ضئيلة من الفلسطينيين الذين يعيشون في الأراضي الفلسطينية المحتلة في دعم فكرة حل الدولتين، تكشف استطلاعات أخيرة أجراها المركز الفلسطيني للسياسة وبحوث الاستطلاعات عن أن المعظم يعتقدون بأن هذا الحل لم يعد عملياً، نظراً للوجود الكثيف للمستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية. وينظر أقل من ثلث المستطلعة آراؤهم إلى السلطة الفلسطينية بشكل إيجابي، بينما يقيم ما نسبتهم 31 % في الضفة الغربية و36 % في قطاع غزة أوضاعهم الراهنة بشكل إيجابي. وهناك عدد أقل ممن ما يزالون يحتفظون بتفاؤلهم إزاء المستقبل، أو حول نوايا إسرائيل طويلة الأمد.
أكثر من حالة فقدانٍ للإيمان بالمفاوضات، تتحدث هذه الإحصائيات عن أزمة ثقة في نفس المؤسسات وعملية اتخاذ القرارات الأكثر ارتباطاً بها. إنها تبين المدى الذي تذهب به خيبة الأمل الفلسطينية فيما وراء مجرد انتقاد أي فرد أو قرار مخصوص، لتشمل الحالة السياسة الراهنة التي ما تزال قائمة منذ العام 1993.
التهميش التدريجي والمستمر للفلسطينيين الذين يعيشون خارج الأراضي الفلسطينية المحتلة من أي شكل ذي معنى من الانخراط في عملية اتخاذ القرار السياسي طوال السنوات العشرين الماضية، لم يفعل سوى مفاقمة الشعور بالانفصال الذي يتعزز باطراد بين الفلسطينيين العاديين وبين الهياكل السياسية التي تمثلهم. ومنذ العام 1993، أصبح اتخاذ القرار يتركز بازدياد في أيدي قلة، مع تحول النفوذ السياسي بحكم الأمر الواقع من منظمة التحرير الفلسطينية إلى السلطة الفلسطينية، ثم الأحدث من ذلك، إلى مكتب الرئيس نفسه فقط. وقد عمل ذلك بشكل ملحوظ جداً على اختزال أي فضاءات كانت ذات مرة مفتوحة أمام الفلسطينيين للتأثير على القرارات السياسية الرئيسية، خاصة في داخل منظمة التحرير الفلسطينية. وفي تناغم مع ذلك، اختُزلت المطالب السياسية الفلسطينية وضاقت إلى حد التركيز شبه الحصري على بناء الدولة ومعالجة التحديات الأكثر قرباً، والمرتبطة بـ”الحكم الذاتي” تحت الاحتلال (في حين تم تأجيل كافة القضايا الأخرى إلى أجل غير مسمى حتى مفاوضات الوضع الدائم).
إن الدلائل على وجود أزمة ثقة متنامية في الوضع السياسي الراهن هي من الكثرة والوضوح بحيث يصعب تفويتها. فعبر المنتديات المختلفة، والمواقع الألكترونية، والمنشورات التي تشكل العنصر الرئيسي للحياة السياسية الفلسطينة داخل وخارج الأراضي الفلسطينية المحتلة، يدعو الكثير من الفلسطينيين إلى عودة نحو لوح الرسم، وإعادة تقييم للأهداف والاستراتيجيات الوطنية. وتشمل الخيارات التي يجري ترويجها إجراء إصلاحات بعيدة الشأو لمنظمة التحرير الفلسطينية، وإجراء انتخابات جديدة للمجلس الوطني الفلسطيني، بل وحتى حل السلطة الفلسطينية. وليست هذه تغييرات تجميلية، ولم تكن كذلك أيضاً مطالبات المحتجين المشاركين في التظاهرات المناهضة للحكومة، والتي جرت في رام الله في شهر أيلول (سبتمبر) الأخير، وضمت دعوات إلى استقالة كبار الشخصيات الفلسطينية، وإلى أن تنأى منظمة التحرير الفلسطينية بنفسها عن اتفاقيات أوسلو جملة وتفصيلاً.
على هذا النحو المطرد، تسلط تلك الدعوات الضوء على موجة من التوجهات السياسية المتغيرة والحساسيات الناجمة في أوساط عدد متزايد من الفلسطينيين. ويمتد ذلك إلى ما وراء مسألة الحوارات حول الدولة الواحدة/ الدولتين ليشمل تركيزاً على الحقوق في حد ذاتها، ومناظرات حول أفضل السبل لتعريف الاحتلال الإسرائيلي وأي من هيئات القانون الدولية هي التي تلائم التعامل مع القضية بشكل أفضل، ودعوات للعودة إلى النشاط المجتمعي والمقاومة غير العنيفة. وهكذا، يبدو أن أي إجماع وطني أو تخويل يتعلق بدعم المفاوضات وأنه يختفي بسرعة.
من دون إحداث تغيير في الوضع الراهن، سوف تواجه القيادة الفلسطينية بعض الخيارات الصعبة. وثمة منطقتان تبرزان بشكل خاص في هذا الإطار. أولاً، يجب على القيادة التفكير في تأسيس حوار وطني فلسطيني جديد يهدف إلى تنشيط وإنعاش الحركة الوطنية الفلسطينية التي أصبحت ضعيفة. وبالنظر إلى أن الحوارات حول وضع استراتيجية فلسطنية تحدث فعلياً، فإن القيادة ستخدم نفسها أفضل إذا هي أصبحت جزءاً منها وجعلت نفسها أمام المنحنى بدل أن تجد نفسها أحد الأهداف الأساسية لهذه الاستراتيجة. وبينما لن يكون ذلك خالياً من المخاطرة، فإن المساعدة في تسهيل قيام مثل هذا الحوار في بيئة هيكلية وحصرية تسمح بمشاركة دوائر فلسطنية رئيسية سوف تخدم كعَرض للقيادة والوطنية، وستساعد رام الله في إعادة الاتصال مع أولئك الذين فقدت اتصالها معهم فعلياً، اللاجئين الفلسطينيين بالتحديد. وأحد الخيارات –الأكثر قابلية للتطبيق من معظم الخيارات الأخرى- هو إنشاء جمعية تأسيسية تكلف بصياغة برنامج وطني جديد قادر على إعادة توحيد الجسم السياسي الفلسطيني حول مجموعة متفق عليها من الأهداف والاستراتيجيات الوطنية.
ثانياً، يتعين على القياة الفلسطينية إعطاء الأولوية للإصلاحات المؤسسية التي تمس الحاجة إليها، من أجل السماح بقدر أكبر من دمقرطة اتخاذ القرار. وينبغي أن تبدأ مثل هذه الإصلاحات بتجديد منظمة التحرير الفلسطينية، والتي ينبغي فصل دورها ومسؤولياتها كممثل شرعي ووحيد لكل الشعب الفلسطيني بوضوح عن صلاحيات السلطة الفلسطينية. ويجب النظر أيضاً في إحداث تغييرات في تمويل منظمة التحرير الفلسطينية، وكذلك إجراء مراجعة لميثاقها من أجل تعزيز الإجراءات الديمقراطية الداخلية. وبالإضافة إلى ذلك، سوف يؤدي إطلاق انتخابات جديدة للسلطة الفلسطينية وإحياء المجلس التشريعي الفلسطيني إلى توفير رقابة تشريعية إضافية على القرارات التنفيذية التي تتخذ في الأراضي الفلسطينية المحتلة. لكنه لا يجب معاملة انتخابات السلطة الفلسطينية، مع ذلك، باعتبار أنها الدواء الشافي لجميع المشكلات والعلل التي تواجه القيادة الفلسطينية. وأخيراً، سوف تكون تقوية المجتمع المدني الفلسطيني وترويج قدر أكبر من الحوار العام والمناظرات حول السياسات أمرين مهمين كليهما في تقوية المشاركة العامة والتمثيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
يجب على الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء أن تشجع وتدعم التقدم على كلتا الجبهتين. وعندما تضع في اعتبارها الدروس المستقاة مما حدث في أعقاب مقاطعة الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة للحكومة التي قادتها حماس في العام 2006، فإن ذلك سيشمل المساعدة في دعم إقامة حوار وطني فلسطيني جديد وتشجيع بلدان أخرى ذات تجارب مشابهة على تقديم مثل ذلك الدعم أيضاً. ويجب على الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء أن يحرصوا ويؤكدوا على الفصل بين منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية في كل تعاملاتهم المستقبلية مع كلا المؤسستين، بينما ستتطلب إقامة انتخابات ناجحة للسلطة الفلسطينية دعماً قوياً من الاتحاد الأوروبي وقدراً ليس بالقليل من الضغط الدبلوماسي لضمان أن تسمح إسرائيل للتصويت بأن يتم عبر المناطق الفلسطينية المحتلة. وبالإضافة إلى ذلك، يجب على الاتحاد الأوروبي تركيز جهوده بشكل أكثر مباشرة على تشجيع المزيد من الحوار العام حول السياسات، وكذلك إعادة هيكلة تمويل الاتحاد الأوروبي من أجل تمكين، وليس إضعاف، منظمات المجتمع المدني في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
أخيراً، يتعين على الاتحاد الأوروبي تقييم أثر حدوث تحول محتمل في الاستراتيجية السياسية الفلسطينية في وقت يطالب فيه المزيد والمزيد من الفلسطينيين بالتغيير. ويعني ذلك الانخراط على نحو أكثر جدية مع أولئك الذين يعطون الأولوية لنضال يقوم على الحقوق، من دون مساواة ذلك بالضرورة مع الاستقلال الفلسطيني وحده. ويبين التاريخ الحديث أن كلاً من قدرات هؤلاء التنظيمية وقاعدة دعمهم الجماهيري تبدو مرشحة للنمو. ويمكن أن يفضي ذلك إلى التهميش التدريجي للمؤسسات السياسية المكرسة تقليدياً لغرض مفاوضات حل الدولتين مع إسرائيل، وترك المتحاورين التقليديين للاتحاد الأوروبي بنفوذ متقلص، في حين يكسب الفاعلون الجدد الجاذبية. وبهذا، سيفعل الاتحاد الأوروبي وأعضاؤه حسناً إذا هم أشركوا هؤلاء الفاعلين في وقت مبكر، بينما ما يزال السعي إلى نيل الحقوق يترك الباب لحل الدولتين مفتوحاً.
لا ينبغي استخدام استئناف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية التي ترعاها الولايات المتحدة ذريعة لتأجيل اتخاذ مثل هذه التدابير إلى الأبد، حتى لو أنها تعرض بعض الحساسيات فيما يتعلق بالتوقيت. بينما ما تزال الأراضي الفلسطينية المحتلة هادئة نسبياً، فإن الوضع على الأرض يبقى هشاً. ثمة عدد من العناصر الموجودة التي يمكن أن تدفع بها إلى الحافة –الأزمة المالية التي تواجه السلطة الفلسطينية؛ البناء الاستيطاني المستمر؛ عنف المستوطنين المتزايد؛ وبيئة إقليمية قابلة للاشتعال، من بين أمور أخرى كثيرة. وعلى هذه الخلفية، فإن تزايد السخط الشعبي المشروط بفقدان الثقة بالمفاوضات، لا يفعل سوى إضافة القش الجاف على وضع قابل للاشتعال سلفاً.

ألكسندر كُتاب – (المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية) ترجمة: علاء الدين أبو زينة- الغد الاردنية
*
انضم إلى المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية كزميل زائر في العام 2013. كان مستشاراً للفريق الفلسطيني المفاوض حول مفاوضات الوضع الدائم في السنوات 2009 – 2011. كما أنه عضو مؤسس لمنتدى بير زيت للدراسات الاستراتيجية في جامعة بير زيت

Share this Article
Leave a comment

اترك تعليقاً