“سلام” أم “استسلام” الفلسطينيين؟ .. حوار مع نورمان فنكلستاين

2014/02/19
Updated 2014/02/19 at 11:27 صباحًا

file

 

‹›

نورمان فنكلستاين هو رجل التناقضات. وهو المولود في بروكلين لعائلة من اليهود الناجين من معسكرات الاعتقال النازية. مواقفه أغضبت اليهود الأميركيين وبشدة، خصوصاً تنديده اللاذع بما أطلق عليه مصطلح “صناعة المحرقة”، أو ما يمكن وصفه “باستغلال الهولوكوست لأهداف استعمارية”. هو المجادل البارع، بل والأصيل في براعة الجدل بالمتناقضات، يدحض خصومه بهوامش مرجعيات حقائقه الدقيقة، كما وبدقة الحقائق التي يستعملها في محاججة خصومه. هو معجزة أكاديمية، لكن، ونظراً لشراسة خلافاته مع أقرانه الأكاديميين، فقد نورمان فنكلستاين منصبه الجامعي. وبالرغم من أن قلة من الناس قد تتفق مع كل ما يقوله، إلا أن نورمان فنكلستاين سيبقى مثقفاً لا غنى عنه بل وأحد أهم عباقرة الثقافة في أميركا.
نورمان فنكلستاين، صاحب المؤلفات التسعة –من “صورة وواقع الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني
Image and Reality of the Israel-Palestine Conflict  الصادر سنة 1995، إلى “معرفة الكثير جداً: لماذا تأتي الرومنسية اليهودية الأميركية مع إسرائيل إلى خواتيمها Knowing Too Much: Why the American Jewish Romance with Israel is Coming to an End  الصادر سنة 2012- وفي مقابلتة الموسعة هذه مع موقع (Review 31)، وفي ظل استئناف مفاوضات السلام الإسرائيلية – الفلسطينية الحالية،  يكشف الكاتب هنا تناقضات عدة بين مواقف عديدة مثيرة للجدل. فبعد عقود من الزمن، كان نورمان فنكلستاين فيها أحد أبرز مؤيدي القضية الفلسطينية، يعيد فنكلستاين توجيه سهامه منتقداً حركة التضامن مع الفلسطينيين. وفي حين يستهجن تواطؤ القيادة الفلسطينية مع إسرائيل، فإنه يدافع عن حق إسرائيل في التعايش السلمي في ظل ما يسمى “بحل الدولتين”، إنتهاء بوصف “عملية السلام” التي تم إحياؤها مؤخراً باعتبارها محاولة لفرض “هزيمة تاريخية” على الشعب الفلسطيني.
لكن جل الغرابة في كل ذلك يأتي في اعتقاد فنكلستاين بأن نهاية الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني باتت في متناول اليد، كما يفسر لماذا بات بالإمكان وضع حد لاحتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية وإقامة الدولة الفلسطينية في المستقبل المنظور.

أجرى الحوار: مات هيل   

   
الترجمة (بتصرف): سيف الدين وهيب البيطار

* ما مدى تفاؤلك حيال المفاوضات الحالية برعاية جون كيري وقدرتها على وضع حد للصراع الإسرائيلي–الفلسطيني؟
– الهدف من المفاوضات الحالية هو فرض تسوية على الفلسطينيين وفق الشروط التي تمسكت إسرائيل بها منذ زمن طويل. فمنذ المرحلة الأخيرة لمفاوضات كامب ديفيد في طابا سنة 2001 وحتى يومنا هذا، لم تقدم إسرائيل أي خريطة مغايرة لخريطة تصوراتها الأساسية والقديمة ذاتها، فيما يتعلق بالجوانب المناطقية للصراع. تريد إسرائيل ضم 9 % إلى 10 % من أراضي الضفة الغربية، أو ما يسمى “بالكتل الاستيطانية الكبرى”، وهي الخريطة ذاتها التي تشير لمسار الجدار الذي شيدته إسرائيل داخل أراضي الضفة الغربية، أي حسب ما قام بتسميته أحد كبار المسؤولين الإسرائيليين “حدود إسرائيل النهائية” التي تنتزع ما يقارب 9.5 % من الأراضي الفلسطينية المحتلة.
إذا ما نجحت إسرائيل في تحقيق ذلك، فإن “الدولة” الفلسطينية المفترضة، سيتم تجريدها من أهم أراضي الضفة الغربية الصالحة للزراعة، إضافة إلى جل مواردها المائية، وأيضاً من مركز القدس الشرقية حيث محور الحياة الفلسطينية (القدس الشرقية تمثل 40 % من الاقتصاد الفلسطيني). أما ما يتبقى من الضفة الغربية، فلن تكون سوى أجزاء مقطعة الأوصال، شبيهة بالكنتونات التي كانت مخصصة للأفارقة السود خلال فترة نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، والتي تم تفتيتها فيما بعد أيضاً إلى كنتونات رئيسية وأخرى فرعية. أما فيما يتعلق بمسألة اللاجئين، فلا تقبل إسرائيل سوى بآلية دولية “لتوطين” اللاجئين في البلدان التي يقيمون فيها حالياً، أو بإعادة توطين بعضهم في بلدان أخرى، وتوطين البعض الآخر في كنتونات الضفة الغربية مستقبلاً.
لكل طرف من أطراف النزاع دوافع مغايرة لدوافع الطرف الآخر في المشاركة في المفاوضات الحالية. ليس للفلسطينيين خيار آخر سوى المشاركة في المفاوضات لأن الولايات المتحدة هي الطرف الذي يدفع ثمن فواتير السلطة الفلسطينية و(ثمن رشاوى فسادها) أيضاً. وإسرائيل بحاجة للتظاهر بأنها تفاوض من أجل السلام من أجل منع تفاقم حركة المقاطعة الدولية المتصاعدة ضدها (وخاصة الأوروبية). كذلك، يأمل الرئيس أوباما ووزير خارجيته كيري بنجاح خدعتهما في إخراج أرنب “اتفاقية سلام” من تحت قبعة الساحر “كيري”، وذلك من أجل انتشال صورة رئاسة أوباما من مستنقع فشله. وليس من الواضح إذا كان الثنائي أوباما وكيري سينجحان في مهمتهما، لكننا إذا أخذنا بعين الاعتبار واقع انهيار العالم العربي، وحالة حماس التي يرثى لها خصوصاً بعد الإنقلاب ضد جماعة الإخوان المسلمين في مصر، إضافة الى قنوط الفلسطينيين وحال أجيالهم الصاعدة غير المسيسة أو المثقفة، والسلطة الفلسطينية التي تم تركيعها واستعبادها، فربما يكون من الممكن أخيراً فرض هزيمة تاريخية نكراء على الفلسطينيين. وفي نهاية المطاف، ستقوم الولايات المتحدة بتقديم صفقة مساعدات ضخمة للفلسطينيين شبيهة (بخطة مارشال). كذلك الوضع في غزة الآن، حيث يبدو أن إسرائيل ومصر متواطئتان لجعل الحياة في غزة لا تطاق، وذلك من أجل دفع سكان غزة إلى التخلص من حركة حماس بأنفسهم مقابل تلقي الإغاثة المادية من السلطة الفلسطينية.
* مؤخراً، قمت بمفاجأة العديدين بالقول بأنك أصبحت تعتقد بتحسن فرص التوصل الى تسوية لحل الدولتين خلال السنوات القليلة الماضية. كيف تبدو لك هذه التسوية؟ وما هي الشروط التي من الممكن التنبؤ بحصولها لإنجاح هذه التسوية؟
– استغرقت محاولة حل هذا الصراع أربعة عقود من الزمن تقريباً. كل ذلك من أجل إيجاد شروط توافقية “لحل الدولتين” على أساس حدود العام 1967 والتوصل إلى حل “عادل” لقضية اللاجئين الفلسطينيين، استناداً إلى حقهم بالعودة أو التعويض. أما الفرق بين ما كانت عليه الحال قبل أربعة عقود وما عليه الحال الآن، فقد حدثت تغيرات كبيرة ومهمة في الرأي العام الغربي. الأوروبيون ضاقوا ذرعاً بالصراع الإسرائيلي–الفلسطيني على وجه التحديد. كما ضاقوا ذرعاً بالنزعة العسكرية الحربية للحكومات الإسرائيلية. وبات الرأي العام الأميركي، ومن ضمنه الرأي العام اليهودي الأميركي، أكثر انتقاداً للسياسات الإسرائيلية. فاليهود الأميركيون هم سياسيون ليبراليون إلى درجة كبيرة، حتى أنهم يجدون صعوبة كبيرة في التوفيق بين عقيدتهم الليبرالية إضافة لاحترامهم لسيادة القانون والمساواة تحت سقف القانون واستخدام الدبلوماسية واللجوء للمؤسسات الدولية، وبين استخدام القوة العسكرية لحل الصراعات بين الدول على النحو الذي تقوم به إسرائيل بالذات. ويعرف اليهود الأميركيون الآن الكثير عن حقائق هذا الصراع، الأمر الذي يحول دون استمرار دعمهم الأعمى لإسرائيل. فإذا أمكن تحفيز هذا الرأي العام عبر حركات جماهيرية فعالة، فسيكون من الممكن التوصل إلى حل لهذا الصراع على أسس من توافق الآراء.
لكن العامل المتغير الحاسم هنا هو الفلسطينيون أنفسهم. فإن استطاع الفلسطينيون الشروع بحملة غير عنفية من العصيان المدني الشامل، سيكون من الممكن حينها الضغط من أجل التأثير على إسرائيل، ودفعها إلى الانسحاب إلى حدودها القانونية، وإيجاد حل معقول لقضية اللاجئين الفلسطينيين. ويشهد التاريخ كيف أن زوال التمييز العنصري في جنوب الولايات المتحدة الأميركية تطلب حركة جماهيرية كبيرة بين الأميركيين من أصل إفريقي، الذين كافحوا دون كلل من أجل نيل حقوقهم الدستورية الأساسية. وقامت هذه الحركة الجماهيرية حينها بتحفيز تيارات واسعة من نخبة الأميركيين الذين رفضوا وحشية الجنوبيين العنصريين في محاولتهم إخماد النضال غير العنفي الذي قام به الأميركيون من أصل إفريقي. الغضب الشعبي الأميركي الواسع (كما والحرج الدولي الذي تعرضت له الحكومة الفيدرالية) حينها، اضطرا الحكومة الفيدرالية الأميركية إلى فرض إلغاء كافة أشكال وممارسات الفصل والتمييز العنصري التي كان أهل الجنوب الأميركي يمارسونها ضد الأميركيين من أصل إفريقي. وعلى خطى المثال أعلاه، من المؤكد أن تكون لحركة عصيان جماهيرية فلسطينية غير عنفية، القدرة على استثارة رد إسرائيلي عنيف (كما حصل خلال الانتفاضة الأولى سنة 1987)، وبالتالي، فإن الرد الإسرائيلي الوحشي سيؤدي إلى تعبئة الرأي العام العالمي، ما سيحمل الأمم المتحدة والمجتمع الدولي على فرض شروط من التوافق على إسرائيل استناداً إلى القانون الدولي.

* دعمك لحل الدولتين، إضافة لحق إسرائيل في الوجود، أدى بك إلى الخروج من دائرة المتضامنين مع الشعب الفلسطيني في الغرب. أولئك المتضامنون الذين أصبح الكثير منهم يعتقدون بأن حل الدولتين أصبح بعيد المنال، أو أمراً غير مرغوب فيه، أو كليهما معاً. ما هو ردكم على هذه الآراء؟
– من غير المألوف أن تصبح مطالب حركة ما، أكثر تطرفاً، كلما تضاءلت فرص تحقيقها لنتيجة ما. ومن المنطقي السؤال: إذا لم تكن قادراً على الحصول على نصف رغيف، كيف لك أن تصعد مطالبك للحصول على الرغيف كاملاً؟ وحسب رأيي، فإن نصف الرغيف هو الآن في متناول اليد، أما الرغيف كاملاً فهو بعيد المنال.
إن اختلاف وجهات نظري مع وجهات نظر حركة التضامن مع الفلسطينيين هي أقل وضوحاً مما تبدو عليه للوهلة الأولى. فحركة BDS الداعية لمقاطعة إسرائيل وتعريتها وفرض العقوبات عليها استناداً لفرضية أهدافها المدعومة بالقانون الدولي، تحتل حالياً مركز الصدارة بين الناشطين الفلسطينيين. وفي هذه المرحلة الحرجة، لا أختلف مع أحد في ذلك. فالجميع يبدأ من فرضية أن على الفلسطينيين لعب أقوى أوراقهم في ملعب الرأي العام والقانون الدولي، حيث المستوطنات غير قانونية، واحتلال الضفة الغربية (بما في ذلك القدس الشرقية) وحصار قطاع غزة هي أمور غير قانونية أيضاً، كما أن إنكار حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة أمر غير قانوني وغير شرعي كذلك.
بالنسبة للقانون الدولي، أجد أن الخلل في حركة
BDS المتضامنة مع الفلسطينيين يكمن في انتقائية دعمها لحقوق الفلسطينيين فقط، وتجاهلها لالتزاماتهم في ذات الوقت. بحسب القانون الدولي، إسرائيل هي دولة. وإذا أردت مخاطبة الرأي العام استناداً إلى القانون الدولي، فإنه لا يحق لك أن تصبح ملحداً وتفقد إيمانك بذات القانون عندما يتعلق الأمر بحقوق الخصم تحت ذات القانون. ومع ذلك، وكما تفعل حركة BDS بالذات، فإنها تدعي بعدم الاعتراف بحقوق إسرائيل، في حين يعترف القانون الدولي بحقوق إسرائيل. هنا، ومن أجل أن تكون جهود هذه الحركة متسقة مع واقع القانون الدولي، ومخاطبة للرأي العام بشكل موضوعي، على الحركة إما الاعتراف بإسرائيل، أو الكف عن الاستناد على القانون الدولي في مطالبها. ليس بإمكانك مناشدة القانون الدولي مؤازرتك بصوت مرتفع فيما يتعلق بحقوقك، وفي ذات الوقت تلوذ بالصمت فيما يتعلق بحقوق الآخرين تحت ذات القانون.

* هل أنت محبط (وحسب رأيك أنت) وفي هذه اللحظة، حين أصبح حل الدولتين على ما يبدو كأمر سهل المنال، من قيام المنادين بحل الدولتين أصلاً بالتخلي عنه؟
– تصبح سياسات “المنفى” تافهة وشخصية حالما “تبدأ الثورة في الانحسار”. ذلك لأنه لا وجود لقيادات نضالية حقيقية أو نضال جماهيري فعلي في فلسطين الآن. فأي “توم” أو “ديك” أو “هاري” أو أي من الآخرين في منافي الأرض بوسعهم التقدم وادعاء تمثيلهم للمجتمع المدني الفلسطيني. اليساريون الغربيون والليبراليون، والوهم الذي يعتريهم بصفتهم “الطليعة الثورية”، مأخوذون باستغلال ورقة “الشعور بالذنب” كلما سنحت لهم الفرصة للضرب على وتر العنصرية العرقية ومخاطبة “الأقليات الإثنية والملونين من الناس”. إذا كنت ممن يعارض هؤلاء، سيتم وصمك بأنك إما أبيض – أو يهودي – أو ليبرالي – أو استعماري – أو إمبريالي – أو صهيوني أو أي تسميات أخرى في ذات السياق. أذكر هذا النوع من الوصمات منذ أيام “الفهود السود”، وأعترف بأنني كنت قد وقعت في شباكها قبل حين من الزمن. لكنني الآن وقد تقدم بي العمر، ابتعدت عن اتباع مثل تلك السياسات الطائفية السخيفة. حسب تقديري، حينما ينهض النضال الفلسطيني من جديد، وبعد وضع أهداف من الممكن تحقيقها لهذا النضال، فإن كل هذا الحديث عن حل الدولة الواحدة سيختفي ويذوب كما ذوبان الثلج إثر بدء فصل الربيع.

* لقد مرت زهاء 20 سنة منذ التوقيع على اتفاقية “أوسلو” التي أفضت إلى إقامة السلطة الفلسطينية. كيف تقيّم أداء السلطة الفلسطينية في الحالة الراهنة؟
– لقد تعلمت إسرائيل درساً من الانتفاضة الأولى (من سنة 1987 إلى سنة 1993)، ومفاد هذا الدرس أنها عاجزة عن حراسة أمن احتلالها للأراضي الفلسطينية. إنتهاكات حقوق الإنسان التي أرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي، جعلت من إسرائيل دولة معزولة دولياً. كما وتعلمت إسرائيل أن تخصيص قواتها العسكرية “لمكافحة الشعب الفلسطيني” في الأراضي الفلسطينية المحتلة، يعني تضاؤل الوقت المخصص لتدريب هذا الجيش من أجل القتال على الجبهات المختلفة. كان الغرض من “أوسلو” -حسب إسحق رابين رئيس الوزراء الإسرائيلي حينه- هو التخفيف من أعباء احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية، وذلك عبر خلق سلطة وقوة شرطة فلسطينية متواطئة مع إسرائيل، تقوم بحراسة المناطق المحتلة نيابة عن الجيش الإسرائيلي. في هذا الصدد، حققت “أوسلو” نجاحاً مبهراً لإسرائيل. فقد تضاءلت شكاوى انتهاك حقوق الإنسان المرفوعة ضد إسرائيل في الوقت الحاضر بشكل كبير. كل ذلك بسبب فصل المهمات الذي تحقق على أرض الواقع، حيث غدت قوات الأمن والشرطة الفلسطينية هي موضع الاتهام والملومة على قمع وسجن وتعذيب النشطاء والمقاومين الفلسطينيين. كذلك، استغلت إسرائيل عملية السلام المؤطرة في “أوسلو” من أجل صرف أنظار العالم عن ضمها المتدحرج لأراضي الضفة الغربية. لذلك، وعلى سبيل المثال، كلما دعيت إسرائيل للكف عن توسعها في تشييد المستوطنات والحد من نشاطاتها الاستيطانية، تذرعت بأن المستوطنات هي قضية من قضايا “الوضع النهائي”، والتي لم يتم الخوض في حيثياتها بعد. لذلك، شكل جوهر “أوسلو” خدمة مجانية لإسرائيل، و”أوسلو” هو بمثابة واجهة تتخندق خلفها إسرائيل من أجل ترسيخ احتلالها للأراضي الفلسطينية، وبشكل لا يمكن الرجوع أو العودة عنه مستقبلاً.

* لقد أخفق عملك الخاص في إثارة الجدل، كما تعرضت للكثير من الهجمات المعادية لك، وبالأخص من أنصار إسرائيل في الولايات المتحدة الأميركية. هل أنت نادم على مواقفك السابقة أو تلك اللغة التي استخدمتها خلال حياتك المهنية السابقة؟
– بادئ ذي بدء، أصبحت ناشطاً عندما قامت إسرائيل بغزو لبنان في العام 1982. وخلال السنوات الخمس والعشرين الأولى من نشاطي، لم يكترث أحد لصيغة خطابي، لأن لا أحد خلال تلك السنوات كان لينصت لما يقال هنا أو هناك. نشاطاتي كشاهد يحاول جاهداً هز مشاعر الناس حينها، لا يمكن وصفها إلا كصرخات في فضاء الصحراء الواسع. واللغة التي كنت أستخدمها آنذاك، قد تظهر للبعض كما لو انها كانت لوناً من ألوان التشدد والتعصب لقضية ما. أما الآن، فهناك جمهور واسع مستعد للإصغاء. ولذلك، ليس هناك حرج في استخدام أي لغة تشاء. وفي هذه اللحظة، أنا أناضل للإبقاء على مبادئي الخاصة، وفي ذات الوقت أعمل على إيصال صوتي لأكبر شريحة من الرأي العام، بما في ذلك الليبراليون من اليهود الأميركيين وبعض من الإسرائيليين أيضاً.

* هل من الممكن دعم “حل الدولتين” إضافة الى “حق العودة” لملايين اللاجئين الفلسطينيين (والذين إن عادوا إلى وطنهم، ستشكل عودتهم خللاً ديمغرافياً، ما سيؤدي في نهاية المطاف إلى نهاية حتمية لدولة إسرائيل)؟
– إن إنكار حق العودة للفلسطينيين حسب القانون الدولي سيكون أمراً ماكراً ومخادعاً. وكذلك، سيكون من النفاق أيضاً إنكار حقيقة المشاكل الحقيقية (والمبدئية) الشائكة المصاحبة لتنفيذ هذا الحق. حسب رأيي، يجب أن ينصب الاهتمام على إيجاد آلية تتمتع بالصفة القانونية لحل “عادل” لهذه القضية الشائكة. ومن الناحية العملية، هذا يعني تأليف هيئة من شخصيات وسلطات اعتبارية تتمتع بالاحترام والمصداقية –مثال الأسقف توتو، وجيمي كارتر، وجون دوغارد، ونعوم شومسكي وممثلين عن مؤسسة الحق وبيتسليم ومنظمة العفو الدولية ومرصد حقوق الإنسان– والذين بإمكانهم الاستماع لكلا الجانبين عبر مداولات عامة، ومن ثم تقديم توصياتهم الخاصة لحل هذه المعضلة.
بطبيعة الحال، تبقى الكلمة الفصل للفلسطينيين أولاً وآخراً. لكني وبكل ثقة، أؤكد أنه إذا ما تم تقديم اقتراح معقول وبنوايا حسنة وصادقة من قبل هكذا هيئة اعتبارية، وإن جاء هذا الاقتراح في سياق إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة على أراضي الضفة الغربية، وفي حدود العام 1967، بما في ذلك القدس الشرقية كعاصمة للدولة الوليدة، فإن الفلسطينيين لن يترددوا (ولو ربما على مضض) في قبول تسوية قضية اللاجئين حسب الاقتراح المقدم إليهم، تماماً كما قبلوا تسوية الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني على أساس “حل الدولتين” في تشرين الثاني من سنة 1988.
* هل تعتبر مفهوم “يهودية الدولة” مفهوماً غير شرعي؟ وهل تعتبر تعريف إسرائيل لدولتها كدولة يهودية عائقاً أمام تحقيق “حل الدولتين” الذي تكلمت عنه؟
– قرار التقسيم الصادر عن مجلس الأمن سنة 1947 يتحدث عن دولة يهودية (وعربية)، لكنه لا ينص صراحة على إقامة دولة عنصرية، من الممكن لها ممارسة التمييز ضد الأقليات من سكانها. كذلك، معاهدة السلام التي وقعتها إسرائيل مع مصر سنة 1979، لم تتضمن أية إشارة أو اعتراف بيهودية دولة إسرائيل. كما أن اتفاقيات أوسلو (1993-1995) لم تتضمن أيضاً أي إشارة أو أي اعتراف بإسرائيل كدولة يهودية. زد على ذلك، خطة الرئيس الأميركي جورج بوش وخريطة الطريق الخاصة بالسلام سنة 2003، والتي لا تتطرق إلى أي إشارة تتعلق بيهودية دولة إسرائيل. كانت المرة الأولى التي قامت فيها إسرائيل بالمطالبة بذلك، خلال مفاوضات السلام التي عقدت ما بين العامين 2007-2009 عندما هرول بنيامين نتنياهو إلى أنابوليس مطالباً بالاعتراف بيهودية دولة إسرائيل.
من المعقول، بل ومن الواضح جداً، أن إقدام إسرائيل على المطالبة بالاعتراف بيهودية الدولة، ما هو سوى ذريعة أخرى لكسب الوقت والمماطلة ولعدم التفاوض بشأن التوصل إلى تسوية نهائية للصراع الإسرائيلي الفلسطيني. كذلك، فإن هذه المطالبة بالنسبة لإسرائيل، ليست سوى ورقة تفاوض إضافية، كما هو الحال في: (إذا قمتم بإسقاط حق عودة اللاجئين، سنقوم بإسقاط مطالبتنا بالاعتراف بيهودية الدولة). هنا، يجب التيقن لأن الفرق النوعي بين هذين المطلبين ينبغي أن يكون واضحاً وجلياً. فالطلب الفلسطيني بحق العودة يستند على القانون الدولي بشكل تام، أما الطلب الإسرائيلي بيهودية الدولة، فيفتقر لأي أسس في القانون الدولي، حتى أن الولايات المتحدة الأميركية ذاتها لا تعترف رسمياً بإسرائيل كدولة يهودية.
من المستحيل على الفلسطينيين قبول الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية، وذلك لسبب بسيط للغاية: ليس هناك توافق أو اتفاق بين الإسرائيليين أنفسهم حول ما تعنيه المطالبة بيهودية الدولة. فعلى سبيل المثال، يختلف العلمانيون من اليهود مع غيرهم من اليهود المتدينين في تقييمهم لفكرة يهودية الدولة. أكثر الأمور شؤماً على الفلسطينيين وقضيتهم، إن تم الضغط عليهم، واضطروا في نهاية المطاف للاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية. حينذاك، سيتم إنكار حق الإسرائيليين الفلسطينيين بحقوقهم الأساسية في المواطنة داخل دولة إسرائيل، كما سيتم تطهيرهم من إسرائيل على أساس عرقي بكل تأكيد.
السؤال عما إذا كان بالإمكان لدولة إسرائيل أن تكون دولة يهودية ودولة ديمقراطية في ذات الوقت، هو سؤال معقد للغاية. يكفينا القول في يومنا هذا بأن العديد من دول العالم، إن لم تكن معظمها، تخوض صراعاً مع التحدي المتمثل في التوفيق بين هويتها الإثنية/ والطائفية/ والوطنية، وفي ذات الوقت استيعاب الهويات الإثنية/ والطائفية/ والوطنية للأقليات من سكانها. الواقع ودون أدنى شك هو أن إسرائيل اليوم تقوم، باسم يهوديتها، بممارسة كل أشكال التمييز العنصري الفظيع ضد الأقليات غير اليهودية من سكانها، وبطرق متعددة ومروعة، إلى حد لا يمكنها معه الادعاء بتطبيقها أي نظرية من نظريات الديمقراطية.

الغد الأردنية

Share this Article
Leave a comment

اترك تعليقاً