الجيش العراقي: ليس لدى الكولونيل من يحاسبه

2014/08/10
Updated 2014/08/10 at 9:36 صباحًا

2093_236935

«…ونجح اللواء الشهيد ورجاله في قتل الإرهابيين وتدمير المعسكر، إلا انه خلال خروجه ركل أحد البراميل المفخخة مما أدى إلى انفجاره (…). اللواء كان يقصد بركلته تدمير أي أثر للمعسكر بعد اجتياحه». هذا المقتبس من كلمة لرئيس مجلس الوزراء، القائد العام للقوّات المسلّحة، نوري المالكي، في كانون الأول / ديسمبر من العام الماضي، والتي أعلن فيها الحرب على تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)» في محافظة الأنبار غرب العراق. كان المالكي يروي اللحظات الأخيرة من حياة قائد الفرقة السابعة في الجيش، محمّد الكروي، الذي قضى في «حادثة البرميل» مع 20 من جنوده وضبّاطه. أطلق المالكي على العمليّة التي ما زالت جارية حتى الآن اسم «ثأر القائد محمّد». وهي تكلّف يومياً نحو 7 مليون دولار، وكان من المفترض أن تنتهي خلال أسبوعين من بدئها. ويمكن اعتبار هذا المقتبس نموذجاً عشوائياً لكيفية إدارة أمن العراق الذي يئن منذ أكثر من 11 عاماً تحت سياط السيارات المفخخة، واتساع رقعة تحرّك الجماعات المسلّحة، واستيلائها على مدن ومحافظات بأكملها.

خطوة أولى نحو… الفساد

في أيار/ مايو العام 2003، حلّ الحاكم المدني الاميركي للعراق بول بريمر وزارة الدفاع والمؤسسة العسكرية العراقية. كان بريمر يخشى انقلاباً عسكرياً يطيح بـ«الحلم الأميركي»، فضلاً عن رغبة البيت الأبيض بعدم وجود قوّات مسلّحة في العراق الذي استقبل الجيش الأميركي بـ«الورود» (قتل في الشهر الذي اجتاحت فيه القوات الأميركية بغداد 3977 مواطناً عراقياً مدنياً). بعد ثلاثة أشهر، أصدر قراره رقم 22 القاضي بتشكيل جيش جديد قوامه 40 ألف عنصر يتوزّعون على ثلاث فرق، وتتمّ إدارته من قبل الجيش الأميركي ويستغرق تدريبه عام ونصف. خصّصت سلطة الاحتلال 3.24 مليار دولار من أجل هذه المهمة من أصل 1804 مليار دولار تمثل صندوق إعادة اعمار العراق. لم يضم الجيش لحظة ذاك أيّاً من عناصر وضبّاط وقيادات الجيش السابق، الذين اعتبرهم جيش الاحتلال ـ كما اعتبرتهم قيادة إقليم كردستان ـ عثرة أمام بناء الدولة العراقية «الديموقراطية» الجديدة، وتهديداً بعودة نظام البعث مجدداً إلى السلطة.
وفي تشرين الأوّل/أكتوبر من العام 2004، ابلغ الرئيس الأميركي جورج بوش الكونغرس بوجود حوالي 70 ألف عراقي في الشرطة والجيش وفرق الدفاع المدني، و13 ألفاً آخرين قيد التدريب. إلا أن وزير الخارجية كولن باول، الذي كان معارضاً لسياسات بوش ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد، أشار إلى أن «البنتاغون» كان يتلاعب بأعداد القوّات الأمنيّة، واتهم وزارة الدفاع بتصديرها أرقاماً كاذبة ارتفعت من 20 ألف عنصر في قوات الأمن العراقية، إلى 80 ألفاً ثم 100 ألف. هذا التلاعب بالأرقام كان أُولى الخطوات التي وضعت قوّات الأمن العراقية على سكّة الفساد.

رتب عسكرية… بالمجان

في العام 2005، شغل باقر جبر صولاغ، أحد صقور المجلس الأعلى الإسلامي، منصب وزير الداخليّة. وسرعان ما أسس سجوناً سريّة، الأمر الذي دفع أهالي مناطق ذات غالبيّة سنيّة إلى التظاهر من أجل إقالته.
لكن السجون لم تُغلق، بل صارت مكاناً آمناً لولادة أمراء الحرب الأهليّة التي اندلعت العام 2006 بمساعدة القوّات الأميركية. وهذه اكتفت بموقف المتفرّج عليها بعد أن أججتها من أجل تخفيف ضغط الميليشيات عنها، السنيّة والشيعية، وهجماتها.
وفي العام 2007، وفي قمة ارتفاع منسوبّ التفجيرات، أبرمت وزارة الداخليّة عقداً مع شركة بريطانية لاستيراد أجهزة كشف المتفجّرات («السونار») بقيمة 66 مليون دولار. اتضح أن الجهاز «مزيّف» ولا يعدو أن يكون لعبة أطفال. في العام الماضي، أدين رجل الأعمال البريطاني الذي باع العراق الجهاز بالسجن لعشر سنوات، واعتبر القاضي البريطاني الذي حاكمه، أن يديه «ملطختان بالدماء»، بينما أعلن المالكي ووزارة الداخلية التي يديرها وكالة عدنان الاسدي، عن إجراء تحقيقات حول فاعلية الجهاز. وكالعادة، لم تسفر التحقيقات عن شيء.
المفارقة أن الجهاز بقي حتّى اللحظة مستخدماً من قبل القوات الأمنية المرابطة في نقاط التفتيش التي تغص بها شوارع العراق، وسط دهشة العراقيين.
وفي ظلّ ظواهر الفساد هذه، صارت الرتب العسكريّة تتناثر على أكتاف رجالات الأحزاب الشيعية الذين حاربوا صدّام حسين أثناء تواجدهم في إيران، مما خلق نمطاً جديداً من القادة، أميين عسكرياً، يعبثون من خلف المكاتب بالأمن متصورين أنّهم يقومون بفرض القانون، بينما خبراتهم تتلخص بتنفيذ عمليات بسيطة ضدّ حكومة صدّام حسين الديكتاتورية. كان المالكي قد وصل توّاً إلى منصبه حينذاك، وصار يسعى إلى تكوين قوّات أمنيّة قادرة على إرساء «دولة القانون» وتدين له بالولاء التام. وبعد إخماد نار الحرب الأهلية التي استمرت حتّى نهاية العام 2008، بمساعدة الجيش الأميركي بعد أن عقد صلحاً مع قبائل المناطق الغربيّة في العراق ضمن صفقة تشكيل «الصحوات»، اتجه المالكي لضرب ميليشيا تفاقم دورها، أي «جيش المهدي»، التي يقودها رجل الدين الشاب مقتدى الصدر.
أبرم المالكي وحاشيته عقود سلاح مع دول أوروبا الشرقيّة، بمعزل عن الحكومة الأميركية التي دأبت دائما على تأخير تجهيز العراق بالسلاح. وفي ايلول/سبتمبر 2008، أبرم وزير الدفاع السابق صفقة بلغت قيمتها 833 مليون دولار، لم تكن واشنطن تعلم بتفاصيلها، وكان المالكي على دراية بها بحسب وزير الدفاع.
وبعد أن اطلعت القيادة الأميركية على العقود اتضح أن أغلب الأسلحة ليس للعراق حاجة بها، فضغطت من أجل تخفيض الصفقة إلى 236 مليون دولار.

دواعش في مبنى مكافحة الارهاب

حتّى حلول العام 2011، أنفقت واشنطن حوالي 24.49 مليار دولار على «إعادة بناء القوات المسلحة العراقية»، وحده الله يعلم مبلغ الهدر والسرقات التي تلفها. أما الحكومة العراقيّة، فكانت تشرّع أبوابها عاماً بعد آخر لتوظيف الشبّان في صفوف القوّات الأمنيّة حتّى بلغوا العام 2013 حوالي مليون و500 ألف عنصر. وتصاعدت ميزانية وزارة الدفاع بين عامي 2005 و2009 بحوالي 28 في المئة، فيما ازدادت ميزانية وزارة الداخلية بمتوسط سنوي بلغ حوالي 45 في المئة، وارتفع إنفاق الجيش العراقي من 12 مليار دولار في العام 2011 إلى 14.7 مليار دولار في العام 2012 ثم الى 17.1 مليار دولار في العام 2013، ليحلّ العراق في المرتبة الرابعة عالمياً من حيث الإنفاق العسكري.
ووفق هذه الأرقام الفلكية، يُفترض بالجيش العراقي أن يكون قويّاً، وألاّ تشوب أمن العراق شائبة. إلا أن العام الذي أنفق فيه العراق 17 مليار دولار على الأمن سقط فيه 7818 قتيلاً نتيجة لأعمال العنف المتصاعدة، فضلاً عن إجراء تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)» عدّة «بروفات» لإسقاط مدن ودوائر رسميّة، ومن بينها مقرّ جهاز مكافحة الإرهاب الذي يقع في قلب العاصمة العراقية، وهو الأهم على مستوى البلاد. وهذا احتُل من قبل أفراد «داعش» في عمليّة ليست معقدة ولم تستخدم فيها سوى سيارتين مفخختين انفجرتا عند بوّابته الخارجية.
وفي العام ذاته، فشل البرلمان عدّة مرّات باستضافة القادة الأمنيين لمساءلتهم عن تدهور الوضع الأمني. وعدم امتثال هؤلاء القادة لطلبات البرلمان جاء بأمر من المالكي بحسب تصريحات نواب، إلى حد أصبحت المؤسسة الأمنيّة غير خاضعة للمساءلة.

الموصل تسقط!

كان لسقوط مدينة الموصل المدوّي، بالإضافة إلى عدّة مدن أخرى في محافظات صلاح الدين وديالى والأنبار، فضلاً عن التهديدات المتواصلة باقتحام بغداد، أثراً مفاجئاً ولاسيما إذا ما قورن بين الإنفاق المالي وعدد عناصر الأمن وبين التدهور الحاصل في الوضع الأمني.
لكن دخان الفشل الأمني لا بدّ وأن تكون خلفه نار، فـ«توبي دودج»، الباحث في الشؤون العراقية، والذي عمل مستشاراً للجنرال الأميركي ديفيد بترايوس، يقرّ بأن المالكي صمم القوّات الأمنية بعد العام 2006 لـ«فرض النظام على الشعب العراقي»، وأن المالكي عيّن نجله أحمد بصفة غير رسمية كـ«نائب لرئيس الأركان» وأعطاه دوراً رقابياً على كل الأجهزة الأمنية، بالإضافة إلى تجريد وزير الدفاع بالوكالة سعدون الدليمي من أيّة صلاحيات، وتولّى المالكي وزارة الداخليّة. وهو عيّن مستشاره المقرب فالح الفياض كقائم بأعمال وزير الأمن الوطني، وانحصرت صلاحيات تحريك القوّات الأمنية بالمالكي بصفته القائد العام للقوّات المسلّحة.
وبعد سقوط الموصل، لم يقرّ رئيس الوزراء بفشله، بينما هو يمسك بزمام المؤسسات الأمنيّة جميعها، التي أعاد تشكيلها حسب موالاة قادتها له. بل سارع إلى بثِّ الإشاعات عن تعرّض الحكومة لـ«مؤامرة» من كتل مشاركة في العمليّة السياسية، ووظف جيشاً من الإعلاميين والنواب لتوجيه الاتهامات إلى كل الأصوات المطالبة بمحاسبة القوّات الأمنية وإعادة هيكلتها.

مراقبون مرتبكون

الكثير من مثقفي ما بعد الديكتاتورية لا يختلفون كثيراً عن الجيش، إذ أن غالبيتهم نتاج لحظة مرتبكة وسريعة، جرى استيلادهم في المستشفى الإعلامي الأميركي بعملية قيصرية. هكذا نما جيش من المتسرعين المتعاطفين مع أي ترويج للقضاء على الإرهاب بالعمليات العسكرية، لم يتساءلوا عن قدرة هذا الجيش، ولم يشخصوا نقاط الخلل التي تعترض طريقه وتحول بينه وبين الانتصار في حربه على الإرهاب. غيّبت وجهة النظر العقلانيّة المتفحّصة، التي ترى الأعطاب في البنية القائمة، المذهبية المستبدة والفاسدة، التي تجاهلت مطالب وحقوق فئات واسعة من الشعب العراقي، كمثل التعامل التسلطي، العنفي والاحتقاري، مع اعتصامات الانبار على مدى أكثر من عام (والتي انتهت باقتحامها بعد إعلانها ملجأ للقاعدة وهو ما مهّد لما يجري الآن)، وكمثل الاكتفاء بالصفقات السياسية مع القيادة الكردية، و/أو التنازع معها، من دون سعي إلى إدماج كردستان في العراق بل وبتسييد منطق أنها ولاية مستقلة، وكمثل الإيهام الفارغ للجمهور الشيعي بأنه حاكم بينما هو يتلوى من وطأة الإهمال والعوز. بمقابل ذلك علت النبرة الغوغائية وخلقت فيالق من المدافعين عن الجيش، بعضها مهندَس لهذه الغاية وبعضها الآخر يتصرف بشكل عفوي. وأصبحت مهمة هؤلاء هي عدم السماح لأي كان بتوجيه انتقاد للمؤسسة الأمنيّة، مشككين بنوايا كلّ من ينتقدها، بل ومخوِّنيه.
بالمقابل أصبح لوم الجنود على ترك مواقعهم في بعض المواجهات، وأنهم «بلا عزيمة»، شائعا لإبعاد المسؤولية عن القادة الأمنيين… بينما الجنود بلا تدريب مكثف، ولا أسلحة متطوّرة، يمضون ساعات طويلة في مناوباتهم وقوفاً على الأقدام في العراء، وهم يرون ضبّاطاً فاسدين يأخذون من بعض الجنود نصف مرتباتهم بمقابل عدم دوامهم في وحداتهم وثكناتهم…
قوّة «داعش» وما شابهه من تنظيمات متطرّفة مستمدة من هشاشة الحكومة العراقية ومن عدم الالتفات مطلقاً لبناء منظور وطني، مفهوم متفق عليه لعراق ما بعد كل تلك الكوارث، وما بعد الاحتلال. هذه مهمة تأسيسية لا مناص منها، تماماً كما لا يمكن «حجب الشمس بغربال». وكل «المعالجات» الأخرى للإرهاب… هراء.

السفير اللبنانية

Share this Article
Leave a comment

اترك تعليقاً