معنى الحرية ومجازاتها … بقلم :عزيز تبسي

2014/11/30
Updated 2014/11/30 at 10:38 صباحًا

 2417_884946

فاض في العقود الأخيرة الحديث عن الحرية، قبل أن يتوثب جيل جديد من المضرجين بعطرها والمأخوذين بشفاعتها للموت في سبيلها، محاولين استنبات غراسها وأعزاقها وفسائلها، وريّهم بما لا يستوجب: دمهم. وأمست ملاذاً أخيراً لشعوب فقدت صوتها ولغتها وكرامتها.. وتكافح بدماء أبنائها وحناجرهم لاستردادهم بعدما أدركت بما يشبه اليقين، أنها وحدها من يتوجب عليه حكم أرضها – أرض البشر – وهي وحدها مسؤولة كذلك عن سباتها اليقيني وعبوديتها، مثلما هي مسؤولة عن الاستيقاظ وإطلاق مبادرة الحرية من أقفاصها. وفي ذكر الحرية، يعبر اسم الكواكبي كنيزك يشطر دمس ليل العبودية الطويل ويضيئه في آن.
***
تفاجأ فريق السينمائيين السوريين، الذين عملوا في عام 1997على فيلم يتضمن بعضاً من سيرة الكواكبي الذي اختتمت حياته على عجل في القاهرة بكأس قهوة مسموم بمقهى “إستنبول” المجاور لحي “العتبة”، بضريحه المحطم في مقبرة حي “باب الوزير”، تمهيداً لاقتلاعه وتحويل المقبرة برمتها إلى استملاك خصوصي يحيلها منشأة تجارية أو عمارة سكنية. ثم تأسس في مدينته حلب عام 2004 منتدى حمل إسمه: “منتدى الكواكبي”، لم يكد يحبو حتى جرى تهشيمه، وتوقيف مجموعة من المبادرين إليه قبل إحالتهم إلى المحكمة العسكرية، لتتكفل بانتزاع اسمه الماجد وكلمات كرزاته في المعنى الذي افتقدوه منذ دهور، وعملوا على غرسه في أرض الجدب.
في الوقت والمكان عينهما، كان محمود غول أغاسي المعروف بأبي القعقاع، يصول ويجول مع جماعاته في أطراف المدينة الأربعة ويوزع أتباعه، خطبه، منشوراته وإفتاءاته، أمام مرأى أجناد من قاموا بالغدر بمعنى الكواكبي. وكتفاً إلى كتف معه، ينتشر تنظيم “القبيسيات” ليعيد المرأة، كما المجتمع الذي تحيا فيه، قروناً إلى الوراء. انطلقت في الفضاء الالكتروني، بعد لهب البوعزيزي العالي عام 2010، مبادرة أخرى حملت اسم “أحفاد الكواكبي”، ليذروها الرعب ومتمماته، قبل أن يهجّ الباقون من مناضليها في أطراف الأرض الواسعة. في أيام الثورات، تسعى الشعوب العزلاء لجعل كل شيء سلاحاً، من حجارة الشوارع إلى مؤلفات الماضي، فأُحْيِيَت على عجل أشعار أبو القاسم الشابي، وخطب عبد الله النديم وأغاني الشيخ إمام وكلمات الكواكبي..، لتنطلق بها الحناجر، وتدون على القصاصات الورقية التي توزع في الشوارع، وكأنه إحياء شعبي لأجداث تلك القافلة المجيدة من صمت أضرحتها، وزلزلة حجارتها الثقيلة. وحسبت لفرط براءتها، أنه يكفي رفع أذكار الحرية حتى يتداعى الاستبداد ويتقوض، أو يتخلى عن بهائميته ويتروض.
بقيت، الشعوب المغلوبة، التي بدأت رويداً تدرك يقظتها، محاصَرة بأحابيل العبادات، ولا تلبث أن تقع بها كما وقع أجدادها الفلاحون في شراك المرابين. واقتنعت بخفة كلام القادة الجدد، بأنه يكفي التخلص من الطاغية حتى يتم التخلص من الطغيان. لمّا يزل يتثبت النقد نحو الطغاة المعاصرين والسابقين، ليتجنب نقد الطغيان، أي نقد الأسس السياسية – الحقوقية لإثبات بطلانها، فضلاً عن الأسس المادية، الاقتصادية/الاجتماعية التي تتكفل بإنتاج سلالات الطغاة وتحميهم. وكأن من يفعلون ذلك، بعلم أو بجهل، يُسوّقون الطغيان ويجترحون له المسوغات، كما يسوّق غيرهم السلع منتهية الصلاحية.
عمل رهط من كتاب الوعظ على الشعوب المغلوبة، على ضرورة تحمل طغاتها وتفهم الشروط التي يصفونها تارة بـ”المعقدة” وطوراً بـ”الشائكة” التي تقيدهم وتحول دون إنجاز وعودهم. كما تحملوا ويتحملون أحوال الطقس والجائحات. ليتحول الطغيان والعبودية، عندهم، إلى أقدار طبيعية ليس منها فكاك، إلا بتغيير مكان الإقامة والتحرر من جغرافيا العبودية. هم عينهم من لا يكف عن إطلاق الجدلية المرعبة من عقالها، جدلية الصفر واللانهاية، أي الحفاظ على الوضع السائد أو الفوضى، وكأنها ميزة جامعة للطغاة وأدواتهم الأيديولوجية. وقد بات الطغاة يتفاخرون في ما بينهم، أنه أمسى بإمكانهم أخذ شعوبهم العطشى إلى البحر، وإعادتها كما ذهبت، على جَفاف عروقها.

***
ولد عبد الرحمن الكواكبي في مدينة حلب 1854، مركز الولاية العثمانية الذي امتد من شواطئ البحر المتوسط غرباً إلى حدود ولاية الموصل شرقاً، ومن تخوم حمص جنوباً إلى حدود ولاية ديار بكر شمالاً. وضمت في جنباتها جماعات واضحة التمايز في لغاتها وأصولها: الترك والعرب والكرد والأرمن والسريان والتركمان والشركس. شهدت الولاية، قبل ولادة الكواكبي، ثلاثة أحداث لها دلالاتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية: قومة أهالي حلب على الوالي خورشيد باشا العثماني في 1819 – 1820 ونهايتها المأساوية، حملة إبراهيم باشا على بلاد الشام في 1843 والتدخل الغربي الذي عمل على إحباطها، قومة حلب في 1850، بما حملته من تداعيات طائفية يمكن اعتبارها بعضا من الآثار القريبة للردود التعبوية الأيديولوجية المرتكزة على الكسور الاجتماعية (الطائفية – الجهوية)، على فشل حملة إبراهيم باشا ومضامينها التحررية والوحدوية.
ليست مصادفة البتة أن يكون تأجيج الصراعات الأهلية، في سيرورتها حروباً أهلية مفتوحة ضربت المشرق العربي برمته، هو تكامل للرد السلطاني المأزوم (متحالفاً مع الرأسماليات الأوروبية الناهضة)، على المشروع التحرري الذي حمل مقدماته إبراهيم باشا، بين أعطاف حملته الحربية. لكن لا يعثر على أثر من تداعيات تلك الوقائع الحادة في كتاب “طبائع الاستبداد”، كأنه نص أراد تجنب أي انضباط تاريخي أو مساءلة قد تودي إلى مهلكة من المهالك التي طالما أضمرها الولاة العثمانيون لخصومهم، ليعمل على توصيل المعنى، “معنى الحرية” وضرورتها لنهضة الشعوب المغلوبة، متجنباً ما يمكن أن يراه فِخاخًا مضمرة.
مارس حيال الطغيان طريقة في المعاينة تشبه المعاينة في علم الأمراض، فتكلم عن الحرية بتعابير علاجية “أصل الداء هو الاستبداد السياسي، ودواؤه دفْعه بالشورى الدستورية”، وكأنه أسير الأطروحة الرائجة في الأوساط النخبوية وقتها، التي استقوت بمدونات الدساتير المكتوبة على الاستبداد المنفلت من عقاله، لتطوقه وتحاصره بها.. و”الاستبداد صفة للحكومة المطلقة العنان فعلاً أو حكماً، التي تتصرف في شؤون الرعية كما تشاء بلا خشية من حساب ولا من عقاب محققين”. لم تكن الغاية عند الكواكبي، مقتصرة على محاولة فهم الاستبداد وتفسير أسبابه فحسب، بل حملت في ظاهرها وعمقها نقداً حاداً لتخاذل الشعوب المستعدة لتسليم مصائرها للطغيان والرقاد في أحضان طاعته.. كأنه بذلك يسترد مقال “العبودية الطوعية” وقلق أسئلته التي كتبها الفرنسي الذي رحل شاباً، إيتيان دولا بويسي (1530 – 1563)، في سرد أنيق، تعالى أحياناً بصراخ مجازف ضد العبودية. كيف يستطيع الطغيان القيام على الأرض والثبات فيها، كأن الشرور كلها لا بعضها وكل ما في الممالك من حثالات، تتجمع حول الطغاة، بفعل انجذاب “طبيعي” مثلما تندفع الأخلاط في الجسد نحو الجزء المريض. ما هي محركات السلطة الاستبدادية، وقواعدها الاجتماعية؟ من أين تبدأ شرعيتها، ومما تستمدها وكيف ستنتهي؟
تعقدت آليات الاستبداد السياسي وأساليب سيطرته عبر شبكاته الأساسية والفرعية، عما كانت عليه في عهد نظام الحكم الذي عاصره الكواكبي. والرجل بقي ابن زمانه التاريخي المحدد، أي زمن الحكم الاستبدادي العثماني في إحدى ولاياته الطرفية. تقدم حاملاً صخرة مشروعه التحرري بأفقه العروبي، ولم تمهله حياته القصيرة (توفي 1902) على إكماله وتبصر ملامح ضعفه واختباره في الممارسة السياسية. وإن كان الروائي الفرنسي “ستندال” قد قدم الجمال كـ”وعد السعادة”، فها هو الكواكبي يسير الهوينى خلف “طبائع الاستبداد” وأمامه، ليقدمه للشعوب المضطهدة والمغلوبة بوصفه: وعد الحرية.

السفير اللبنانية

Share this Article
Leave a comment

اترك تعليقاً