صدام القيم … هل يقود تحولات الزمن المقبل؟… بقلم: مسفر بن علي القحطاني

2014/12/20
Updated 2014/12/20 at 11:14 صباحًا

972be3223f574d95aeb79523e3ab9fc0

تناولت في مقالات سابقة سيناريوات التحولات الحضارية التي يشهدها العالم المعاصر، ويعيشها في حاضره، ولكن الأثر التغيري سيبلغ مداه في المستقبل القريب من خلال التحوّل نحو الجزئي (الفردانية) أو التحوّل نحو الكلي (الشبكية). ويمكن الرجوع إلى تفاصيل هذه السيناريوات في مقالاتي السابقة، وفي هذا المقال أرصد حالة فريدة من التحول الحضاري وهو في حقيقته سير نحو النهاية الوجودية، وهذا الأمر يعتبر تغيراً هائلاً في حالة المجتمع، حيث يذهب المجتمع ويعقبه غيره، بسبب الكوارث أو النهايات السُننية المدمرة، وهذا التبدل نحو الفناء هو أسوأ التغيرات التي تصيب المجتمعات، والتأريخ قد حصل فيه الكثير من تلك المآلات الزائلة، ولا يزال التاريخ أيضاً يسجل أمماً ومجتمعات فنيت وقام على انقاضها آخرون، لكن هذا قليل الوقوع في عصرنا الحاضر، إلا في حالة الحروب الحضارية التي لم تحصل لأكثر من مئة عام، ولكن قد تحدث ارهاصات ذلك الوقوع والاصطدام الذي يورث فناء الآخر في شكل قطعي في حال عاد حلم الإمبراطوريات خصوصاً الدينية منها، وهنا يمكن أن تظهر للباحث صورتان للفناء الحضاري، صورة الصدام مع حضارات أخرى، وصورة التحلل والزوال الذاتي للحضارة. وسأعلق على الصورة الأولى في النقاط التالية:

أولاً: صورة الفناء من خلال الصدام الحضاري بين المجتمعات، ويمكن التمثيل عليه بما توقعه صموئيل هنتغتون في كتابه المثير الذائع الصيت «صدام الحضارات»، حيث طغت حال الخوف من الصدام على حال الحوار القائم بين المجتمعات والأديان، وعلى غرار ذلك خرجت أصوات ودراسات كثيرة تنادي الغرب بالاستعداد للمواجهة الحضارية المقبلة وعلى وجه الخصوص مع العالم الإسلامي، للأسباب التي ذكرها هنتغتون عندما حرر كتابه «صدام الحضارات»، وذلك لأنه يرى أن السياسة الكونية المعاصرة تتمثل الآن في عصر حروب المسلمين، فالمسلمون يحاربون بعضهم بعضاً كما أنهم يحاربون غير المسلمين وذلك بمعدل أكثر بكثير مما تقوم به شعوب الحضارات الأخرى، وأن حروب المسلمين احتلت مكانة الحرب الباردة كشكل أساسي للصراع الدولي، وهذه الحروب تتضمن حروب الإرهاب، وحروب العصابات والقرصنة، والحروب الأهلية، والصراعات بين الدول. وقد يتخذ هذا العنف وهذه الحروب ابعاداً تصل بها إلى صراع رئيسي وحيد بين الإسلام والغرب أو بين الإسلام وبقية العالم.

وقد شرح هنتنغتون نظريته بذكر عدد من الحقائق يراها كافية لبلوغ العالم هذا الصدام، مثل تقريره أن المسيحية تنتشر أساساً من طريق التحول، والإسلام ينتشر من طريق التحوّل والتناسل، وعلى المدى الطويل يرى أن محمداً سينتصر ديموغرافياً، من خلال كثرة تناسل المسلمين، ويرى أيضاً أن في الإسلام الله هو القيصر، وفي الصين واليابان القيصر هو الله، وفي الأرثوذكسية الله هو الشريك الأصغر للقيصر، في الغرب ما لقيصر لقيصر وما لله لله.

كما يعتبر الدين عند المسلمين هو من يتولى زمام الإيديولوجية والقومية الدينية ولا يقبل بالقومية العلمانية، لذلك العلاقات دائماً عدائية بين المسلمين وشعوب الحضارات الأخرى.

ويستشهد هنتغتون باستطلاع رأي أجري في أميركا تناول 35000 مثقف أميركي لديهم إلمام بالشؤون الخارجية، وكان السؤال: هل الصحوة الإسلامية خطر على الغرب؟ وجاءت الإجابة بنعم من 61 في المئة ممن شاركوا في هذا الاستطلاع.( انظر: كتاب صدام الحضارات، ترجمة طلعت الشايب وصلاح قنصوه، دار سطور، الطبعة الثانية 1999م)، والحقيقة أن المهدي المنجرة هو أسبق في الحديث عن نظرية «صدام الحضارات» في كتابه: «الحرب الحضارية الأولى»، (طبعة المركز الثقافي العربي 2005م).

وهذا المعطى التوقعي للصدام الحضاري بقي أحتمالاً لمدة عقدين من الزمن، ثم توارى هذا الاحتمال عن الوقوع، من خلال هيمنة غربية ناعمة وخانقة، وخضوع إسلامي لا سابق له في التاريخ، ومع ذلك سيبقى احتمالاً من ضمن الاحتمالات المتوقعة منطقياً وتاريخياً، ومؤشرات تنامي التطرف الديني الإسلامي والعلماني قد تنذر بإمكان هذا الصدام خصوصاً مع سهولة نشر العداء والإثارة الدينية للمواجهة عبر الوسائل المعاصرة للاتصال والتواصل.

ومن وجهة نظر أخرى تختلف عما قاله صموئيل هنتغتون وغيره من احتمالية وقوع صدام الحضارات ببعده الأيديولوجي والديني، هناك احتمال أكبر – من وجهة نظري – وهو وقوع صدام قيمي يقسم المجتمعات إلى فسطاطين ويلهب الصراع بينهما، وهو ما سأبينه في النقطة التالية.

ثانياً: إن نظرية صدام القيم، كمجال للتداول الحضاري، أصبحت معطى واقعياً اليوم، ولكن قبل البدء ببيان احتمال وقوع الصدام القيمي بين المجتمعات، أود أن أبيّن أن الساحة الثقافية العالمية في مجال نظريات التداول الحضاري قامت على ثلاثة أشكال، أولها: المجال الحواري والتفاهمي، وهو يثري جانب التعارف والتعاون، وعليه غالب عمل المؤسسات الأهلية والرسمية والدولية، وثانيها: شكل نهاية التاريخ (فوكوياما) وصدام الحضارات (هنتغتون وبرنارد لويس) وقد سبقت الإشارة إليه، لكن هناك بوادر لشكل ثالث من التداول، وهو صراع وصدام القيم ويختلف عن سابقيه بما يلي:

1- صدام القيم لا يُعنى بالخلفيات الدينية والحضارية، ويهتم بالقيم العالمية التي تشترك فيها أكثر شعوب العالم، كالحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة والكرامة وغيرها، فعندما تُهمّش تلك القيم وتُحارب بالطرق الخبيثة الملتوية، تتصاعد أصوات الفئة القيمية والتي تدافع عن تلك القيم، في مقابل الفريق الآخر الذي يدّعي زوراً وبهتاناً أنه يعمل لأجل تلك القيم ولكن بتأويله المدني الخاص ووفق منهجيته المصلحية، مخفياً صوراً من الاستبداد ومزيّفاً في إعلامه حالة من الغواية العقلية يتهم فيها الفريق القيمي المناضل بالضلال والسعي للفتنة وغير ذلك من التهم المعلبة، ما جعل هناك حالة من التصادم تظهر في الشارع وفي المواقع العنكبوتية، يتّخذها القيميون وسيلةً للكشف عن هذا النفاق والزيف الذي يُغرّر به البسطاء من الناس، ويقومون أيضاً بتحذير المجتمع من فقد قيمه بسبب هذا الاحتيال المسيّس.

2- الحالة الصدامية في صراع القيم، وهي ليست حالة بين فريقين متضادين بلونين نافرين كما في صدام الحضارات؛ بل هي مواجهة بين من لبس قناعاً وتخفّى من ورائه، وبين من يريد كشف القناع لفضح المؤامرة، أو لنقل بين من يريد تمرير أجندته الشخصية والمصلحية والاستبدادية، وبين فريق يرى نفسه المعني بالحفاظ على المجتمع والضامن لحقوقه والواقف ضد خصومه المستبدين. ومع نمو الوعي الفردي وانتشار المعلومة والصورة والخبر الواقعي البعيد من تزييف المؤسسات الرسمية أو التابعة لها، أصبح للفريق القيمي قدرته على المواجهة والتصدي لتلك المحاولات التي تضرب المجتمع في قيمه، وقد ظهرت مواجهات صدامية بين أنصار العولمة من أصحاب الشركات العابرة للقارات، ومن أعداء العولمة المنتصرين لحقوق الفقراء والعالم الثالث، وكذلك برزت في المواجهات مع مستبدي الديموقراطيات المزيفة والانتخابات الاستعراضية المسرحية، وبين انصار العدالة والحق والمطالبين بالشفافية والنزاهة السياسية، كما هي الحال في بعض المجتمعات العربية وروسيا وفي بعض دول أميركا اللاتينية، ويمكن وصف مطالبات وتظاهرات الحقوقيين وأنصار البيئة في العالم ضد بعض الأنظمة الحكومية والشركات الكبرى بمثال آخر على هذا النوع من الصدام القيمي.

3- إن أدوات الصدام القيمي ليست تقليدية بين الفريقين؛ بل يستعين أنصار الدفاع عن القيم بالمعطيات التقنية الحديثة في النقل للأخبار والنقد للمواقف والأحداث، بالإبداع في تطوير المواقع الإلكترونية الجاذبة، وبرامج التواصل الاجتماعي المؤثرة في شكل كبير جداً على فئة الشباب، أكثر من أدوات الخصوم المعتمدة على هيمنتهم على الإعلام والصحافة الرسمية التقليدية التي يغلب عليها تغيير الوقائع وتزييف الحقائق بما يتناسب مع الموقف الرسمي، ناهيكم عن امتلاكهم للقوة الأمنية الضاربة لأي حراك مجتمعي ولو كان قيمياً في مبادئه.

4- أن صدام القيم، بدأ ينتشر ويفتح مساحات جديدة ودوائر أوسع للمواجهة، تتجاوز محيط دول العالم الثالث أو الدول ذات الاستبداد المقنّع، من خلال نقد السياسات والتوجهات حيال أي قضية إنسانية كبرى، كما حصل في مجاعة الصومال في عام 2012، وما حصل في العدوان الإسرائيلي على غزة في عام 2008، وعام 2012 وفي هذا العام 2014، حيث خرجت غالبية عواصم العالم كلندن ونيويورك وواشنطن وباريس وبرلين وغيرها من العواصم الكبرى في تظاهرات مليونية حاشدة ضد هذا القمع اللاقيمي واللاإنساني، حتى أصبح يظهر للعيان أن هناك مواقف متباينة بين أنصار الحق والحرية والكرامة، وبين من يقف مع مصالحه ولو في صف الباطل رغم قتامته وعدائيته.

هذه الحال من صدام القيم، هي التحوّل الحضاري المتوقع نحو مواجهة قيمية واسعة الجغرافيا تتنامى مع الأحداث وتتواصل في ما بينها بطرق سريعة، تجعل مواقفها شبه متضامنة ومتّحدة إزاء العمل المطلوب مواجهته، وهذا التنسيق العالي ما كان ليحدث في كل حقب التاريخ لولا هذه التقنية المتطوّرة والسهلة والمتوافرة لدى كل شخص، والربيع العربي في2011، هو أنموذج عملي لسيناريو هذا الصدام التحوّلي والجديد.

الحياة اللندنية

Share this Article
Leave a comment

اترك تعليقاً