حقيقة الخصوصية والهوية الثقافية…بقلم: حيدر ابراهيم علي

2015/11/02
Updated 2015/11/02 at 10:13 صباحًا

01qpt995
تثير بعض الدول الإسلامية جدلا مستمرا حول كونية أو عالمية حقوق الإنسان. ولكنه جدل لا يخلو من التناقض، فالبعض يحاجج بأن حقوق الإنسان هي أصل في الإسلام، وأنه قد سبق كل الحضارات والمجتمعات في الدعوة لها. وفي نفس الوقت، نجد أن كثيرا من التيارات ترى في مبادئ حقوق الإنسان مؤامرة غربية تهدف للإضرار بالمجتمعات الإسلامية واختراقها، بهدف نشر الإنحلال والتفسخ تحت دعاوى الحرية والحقوق الأساسية. ونلاحظ أيضا ميلا نحو التوفيقية والوسطية يرفع شعار «الخصوصية» أو «الاستثناء» أو «حماية الهوية الثقافية» في تناول قضية حقوق الإنسان. وهي في أحوال كثيرة، قد تكون كلمات حق يُراد بها باطل، أي أن تُوظف أفكار الخصوصية والهوية والذاتية، كمصدّات تمنع تسرب مبادئ حقوق الإنسان للحياة العامة في البلدان الإسلامية. ولأن الأديان السماوية ـ عموما- تقوم على قوة الإيمان والتسليم لله، فهي تخشى أي فكر يمكن أن يزحزح الوثوقيات التي ترتكز عليها. وبالتأكيد يفتح الإعلان العالمي لحقوق الإنسان المجال لحريات تتضمن خطرا كامنا أو محتملا على الإديان. فهو يركز على حرية المعتقد، والحق في تغيير المعتقد أو الدين، ويذهب بعيدا في حماية هذه الحريات لتصل الحق في الإلحاد والتجديف دون التعرض لعقوبة. فالإنسانية الآن في عالم مفتوح يختلف عن المجتمعات الدينية السابقة المغلقة، والمكتفية ذاتيا ثقافيا، لحد كبير. كما أن العولمة تسقط باستمرار الحواجز الثقافية، وتصل وسائل اتصالها المتطورة إلى قلب منازل الأسرة. فهي تقوم بتوصيل أفكارها إلى أيّ مكان، وبالطبع المقاومة ممكنة بنفس الوسائل. ولكن اليقين أنه لم تعد هناك حصانة ضد كونية مبادئ حقوق الإنسان.
تنشط النظم السياسية الحاكمة في البلدان الإسلامية في مواجهة كونية حقوق الإنسان، ويظهر ذلك جليا في المحافل الدولية. وهذا ما يجعل الحديث عن الخصوصية ليس بريئا، لأن هذه النظم لا تراعي الخصوصية حين تقوم بجلب السلع الاستهلاكية الغربية، أو حين توقع صفقات السلاح، أو طلب العلاج في تلك البلدان. فهي تقوم بمحاولتها اليائسة للفصل بين المنتج الحضاري المادي مقابل الروحي والفكري، حين تعترض على القبول الكامل بمبادئ حقوق الإنسان. وهناك الكثير من حالات استغلال الخصوصية.فقد واجهت عدد من النظم الإسلامية، اتفاقية القضاء على كل أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو)، فقد رفضتها أو تحفظت عليها أغلب الحكومات الإسلامية بدعوى تعارضها مع تعاليم الدين الإسلامي. وهنا للمرء الحق في التساؤل ببساطة: هل أقرّ الدين أي شكل من التمييز ضد المرأة؟ وفي محاولة أخرى، دأب السودان على تجنب الإدانة في الدورات العامة لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة كما فعل الشهر الماضي، رغم انتهاكات النظام الممنهجة لحقوق الإنسان. ويقوم ممثلو النظام بالدفاع عن النظام عن طريق الابتزاز وبالقول أن إدانة السودان ستعني «استهداف الإسلام» لأن النظام إسلامي ويطبق الشريعة. وفي نفس اتجاه توظيف الخصوصية، أعرب السفير السعودي في لندن، الاسبوع الماضي، عن قلقه من الانتقادات البريطانية لوضع حقوق الإنسان في السعودية معتبرا إنها تهدد التعاون بين البلدين. وكتب (محمد بن نواف بن عبد العزيز) في مقالة رأي نشرت في صحيفة (ديلي تلغراف) إن «السعودية دولة ذات سيادة (…) وكما نحترم العادات المحلية والتقاليد والقوانين والمعتقدات في بريطانيا العظمى، نتوقع ان تبدي المملكة المتحدة احتراما مماثلا حيالنا». هذا ويتعرض القضاء السعودي تكرارا لانتقادات المجتمع الدولي بسبب قساوة الأحكام التي يصدرها.
من المؤكد أن الخصوصية لها دورها الحيوي في التفاعل مع العالم الخارجي، وأننا لسنا مجرد متلقين سلبيين لثمار الحضارة العالمية التي تتشكل بسرعة وعمق، فنحن شركاء أصليون على هذا الكوكب، ولسنا مجرد تابعين. وهنا لابد من استخدام الخصوصية بإيجابية، وليس كحيلة ثقافية للوقوف ضد تطورات العالم حولنا، بالذات فيما يتعلق بحقوق الإنسان باعتباره الأعلى قيمة ومركز الكون. ومن المعلوم أن أغلب الأفكار الحديثة، إن لم تكن كلها، ذات مصادر غريبة. فقد خرج المسلمون منذ القرن السادس عشر من مجرى صناعة الحضارة البشرية، ونجحت أوروبا في التقدم وبمتواليات هندسية في بعض الأحيان، بينما ظلت المجتمعات الإسلامية راكدة. وقد دخلت في سبات عميق، لذلك سميت تململها الراهن، بأنه «صحوة إسلامية»، مؤكدة النوم الطويل. وبعيدا عن الإنجازات المادية والتكنولوجبة الغربية، فقد كانت كل الأفكار الساعية لتحسين أوضاع البشرية، وتعظيم إنسانية الإنسان، آتية من الغرب. فالديمقراطية، والاشتراكية، وحقوق الإنسان، ومساواة المرأة، والمجتمع المدني، والدولة الحديثة…الخ،مصدرها الأول الغرب حقيقة. ولذلك للمعترضين بعض الحق، فيما يتعلق بالمصدر الأول، ولكن كل هذه الأفكار فكت ارتباطها الفكري التأسيسي بأصلها، وصارت ملكا للإنسانية جمعاء. فمن الخطأ والتحامل أيضا، إطلاق صفة «الغربية» على الديمقراطية، فهي شراكة إنسانية حضارية عظيمة. علما بأن الغرب ليس شيئا واحدا، كما أن الغرب لا يطابق الرأسمالية المستوحشة تماما. ومن الممكن التعامل بنفس الروح التي أذهب بها للصيدلية واتعاطى مضادا حيويا، ولا أرفضه لأنه علاج غربي. بالتأكيد يختلف الوضع قليلا، ولكن لا يمس مبدأ التعامل مع الآخر. والحل بالنسبة للأفكار علينا قبول المبدأ باعتباره صار إنسانيا وعاما، ولكن الخصوصية ممكنة في الآليات والوسائل لتطبيق المبدأ. ففي الديمقراطية مثلا، القبول بمبدأ السيادة للشعب بلا تحفظ، ولكن في التطبيق يمكن البحث عن الوسائل المتفقة مع واقعي لكي اطبق المبدأ الديمقراطي بأفضل صورة.
تتأكد عالمية حقوق الإنسان بسبب مرجعية فكرة الحق الطبيعي، أي مجموعة الحقوق التي يكتسبها الفرد بالطبيعة باعتباره إنسانا بدون أسباب اخرى. وكان المتدينون المسيحيون يرون أنها هبة من عندالله لا يحق لشخص آخر، أو سلطة أن تحرمه منها. وبعد المسيحية، أكدت حقبة الإنسانوية هذا الحق وأكثر، رغم خلافها العميق مع الكنيسة. ومن المفارقات، أنه حتى الهيمنة الاستعمارية لم تنزع هذا الحق الطبيعي تماما، واعتبرت امتلاكها للمستعمرات، هي «عبء الرجل الأبيض» في القيام بمهمة تمدين تلك الشعوب. من ناحية أخرى، فالاستعمار مثل أي ظاهرة إنسانية يحمل تناقضاته في أحشائه. فقد أدخل التعليم في المستعمرات لتخريج موظفين يقللون كلفة الإدارة، ولكن التعليم لم يتوقف عند هذا الحد. فقد مكّن أبناء المستعمرات من التعرف على الثورات، ووعي حق تقرير المصير. وينطبق نفس الشيء على التجارة، إذ لم تنتقل البضائع فقط من وإلى الخارج.
دخلت الشعوب الإسلامية بحتمية التاريخ إلى عوالم الحداثة والتحديث، مما يفرض عليها تعاملا أكثر مرونة ونقدية في الوقت ذاته، مع قضايا الخصوصية، والهوية. ومن الأخطاء القاتلة، أن تكون الخصوصية سببا للتقوقع والإنطواء. كأن البديل يقول أن الاستبداد هو خصوصية ثقافية نتميز بها أكثر من الآخرين. ولأن التحفظ على عالمية حقوق الإنسان، باعتبارها غربية صرفة، يقذف بنا ـ بوعي أو دون وعي ـ في المعسكر المضاد. فهناك خوف حقيقي أو مفتعل، بين كثير من المسلمين، تعبر عنه نظريات المؤامرة، والغزو الفكري، والتغريب. ومن جانب آخر، يُتهم كل مسلم يدعو للإنخراط في العالم الحديث بالإغتراب، وفقدان الهوية، والتبعية. ولذلك تقل الأصوات الداعية صراحة للدخول في العصر الحديث بشجاعة وندية، وتعلو وتنتشر أصوات الإنغلاق والتحجر الفكري.
٭ كاتب سوداني
القدس العربي

Share this Article
Leave a comment

اترك تعليقاً