العرب غير مستعدّين للتسوية التاريخية…بقلم:جميل مطر

2015/12/10
Updated 2015/12/10 at 9:55 صباحًا

0463460c-1682-489e-b65a-8b52045271f6

سمعت أنه أثناء اجتماع دوري يُعقد عادة على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، ناقش وزراء خارجية عرب بعض جوانب الوضع العربي الراهن. بمعنى آخر، نوقشت عرضاً وبغير إعداد أزمات الشرق الأوسط. نوقشت بعيداً عن هدف السعي لإيجاد بدائل، وفي الغالب، لم يجتمعوا إلا تحت ضغط معنوي رقيق أو مجاملة لطرف يشعر أكثر من غيره بثقل المسؤولية التاريخية عن تدهور العمل العربي المشترك وضبابية المرحلة القادمة. خلاصة القول، والاجتماع أيضاً، أن المجتمعين لم يأخذوا الأمر بالجدية التي يستحقها. خرجوا من الاجتماع بابتسامات صفراء على الوجوه، وفي القلوب نيات وشكوك، وربما يأس، وفي الأغلب.. لا مبالاة.
دعونا لا نظلم وزراءنا، وكل حكامنا. فما نسمعه علناً أو يتسرّب إلينا همساً عما يدور في اجتماعات وزراء خارجية ومسؤولين في دول كبرى وعظمى لمناقشة أزمات الشرق الأوسط، لا يبشر بأن هناك في عاصمة ما أو زمن ما، ما هو أفضل أو أقرب. هناك على العكس ميوعة وهناك غموض وهناك خوف وعجز وتقصير شديد في إدارة الأزمات عموماً، وليس فقط أزمات الشرق الأوسط. أعرف مثلاً أن التشاؤم الشديد صار سمة أساسية من سمات أي مؤتمر أكاديمي أو سياسي يناقش مستقبل باكستان خاصة وجنوب آسيا بصفة عامة. يزداد التشاؤم كلما اقتربت نهاية التدخل العسكري الواسع في أفغانستان وازدادت احتمالات تدهور الوضع العسكري والسياسي على الحدود بين الهند وباكستان. لا أحد على قدر من الاطلاع والفهم يُنكر أن باكستان على خريطة توازنات القوة الآسيوية لغم يهدّد بانفجار مهول.
هذا اللغم تتجاوز خطورته أحياناً حد الخطورة المتوقعة من كوريا الشمالية ومن نزاع ما زال منضبطاً بقوى عاقلة ومسؤولة في كل من اليابان والصين، وبين الصين. بل وربما أخطر من نزاع قد يتفاقم ذات يوم بين الصين وكل من الفلبين وفيتنام وإندونيسيا. باكستان وحدها تمتلك ما يزيد عن مئة قنبلة نووية. هذه الثروة التدميرية إن وجدت، وهي موجودة بالفعل، في دول مستقرة ومنضبطة السلوك قد لا تمثل خطراً داهماً لا على جيرانها أو على نفسها. لكن الوضع يختلف في دولة تكتظ بعدد هائل من سكان أغلبهم يعيش تحت أدنى مستوى ممكن للفقر، وتكتظ في الوقت نفسه بعشرات إن لم يكن بمئات المنظمات الإرهابية، بعضها متقدّم التسليح وأكثرها بالغ التطرف والدعم الخارجي. تظهر مشكلة باكستان واضحة في عبارة استخدمها ذات مرة ريتشارد هاس، الخبير المشهود له بدقة التحليل، لخصت حقيقة الوضع. قال إن مشكلة باكستان المستدامة وخطورتها تكمنان في ثنائية جوهرية، ثنائية دولة قوية من ناحية، بمعنى ضخامة أجهزتها الأمنية والبيروقراطية والنووية، ودولة شديدة الضعف من ناحية أخرى، بمعنى هيمنة قوى التطرف والطائفية والتشرذم والإرهاب على المجتمع.
لدينا في الشرق الأوسط، وبالذات في العالم العربي، نماذج غير مطابقة تماماً لهذه الحالة الباكستانية، ونهاياتها حتى الآن سيئة، بل مخيفة. عراق صدام حسين كان دولة قوية، بالمعنى الذي اختاره هاس، ومجتمع عميق مهلهل طائفياً وعرقياً. العراق كان دولة قوية وضعيفة في آن واحد، وعندما وقع التفجير من الخارج انكشفت خطورة هذا النموذج.
ومع ذلك كررته، ومازالت تمارس التكرار، دول عربية ودول غربية. في سوريا كانت دولة الأسد قوية، بل شديدة المراس والعنف. وكانت في الوقت نفسه ضعيفة بل شديدة الضعف. مازالت هذه الثنائية تهدّد بالخطر، بل وبئس المصير، سوريا ودول أخرى تصرّ على امتلاك دولة قوية في مجتمعات منهارة. يمكن نظرياً وبالتجربة تصور امتداد هذا الخطر إلى أواسط آسيا وجوار روسيا وصولاً إلى باكستان في النهاية، وربما في مراحل مبكرة غير متوقعة.
الدولة العربية التي أفلتت من ثورات «الربيع» تعمل الآن وبكل طاقتها على زيادة قوتها. لا تعلم أن القوة التي تضيفها إلى نظام أمنها، هي نفسها العنصر الذي يجعلها في النهاية، وبسبب ظروفها الداخلية، دولة في حقيقتها ضعيفة. في الشكل دولة قوية الأمن والتعبئة الرسمية والإعلام الموجّه، وفى الواقع دولة ضعيفة الاندماج الداخلي وناقصة الاجتماع القومي وعاجزة، أو غير راغبة، في تحقيق المجتمع العادل والمطمئن اجتماعياً واقتصادياً والمشارك سياسياً. كلها وغيرها عناصر ضعف مصيرها أن تصطدم بعناصر القوة الظاهرية.
مخيف حقاً ما يمكن للخيال أن يتوقعه بالنسبة لمستقبل هذا الصدام في الثنائية الباكستانية. مخيف أيضاً، لأنه كان دائماً بعيداً عن التوقع وعن مدى الخيال، ما يمكن توقعه بالنسبة للهند، قلعة الديموقراطية في العالم الثالث. هناك في هذا البلد الشاسع مساحة والكثيف سكاناً والنووي تسلحاً والمستقر أمنياً ولو نسبياً، وقع في الآونة الأخيرة ضحية سلسلة من التغيرات الاجتماعية العميقة. أسفر عن هذه التغيرات، وهي عديدة، تطاير غطاء القمقم وخروج «عفريت» في شكل عنصرية دينية وقومية غير مسبوقة، عنصرية تحتمي بحزب قومي شديد التطرف ورئيس وزراء بكاريزما قوية وطموحات «هندوسية» ليست أقل شأناً أو خطراً من طموحات مماثلة سلبت عقول قادة دينيين وطائفيين وعرقيين في عالمنا العربي، وكانت النتيجة، ما نراه ونسمعه ونعانيه في حاضرنا ونخشى استمراره وتوسّعه أو تعمّقه.
في ظل هذا الجو المشحون بالخطر والقلق وصعوبة التنبؤ، انطلقت لدى بعض دول الجوار، ودول الاستعمار القديم والجديد على حد سواء، موجة من الحنين الدافق إلى ماضي معيب ومهين. بريطانيا، على أيدي كاميرون، لا تخفى نيتها ومشروعها للعودة عسكرياً وسياسياً بالسرعة اللازمة لتكون هنا في الشرق الأوسط بين، أو في صدارة، القوى المتسابقة على موقع يؤثر في قرارات وسياسات مستقبل الإقليم.
روسيا الامبراطورية التي عاشت، وانتهت، يحلم ورثتها من قادة الكنيسة وأجهزة الاستخبارات وفلول الحزب الشيوعي بمواقع على مياه البحر المتوسط الدافئة وقريبة من مياه الخليج الساخنة، نراهم يعودون وبمجازفة مثيرة ولكن بآمال واسعة. لا أظنّ أن مساعي الرئيس بوتين في استعادة هذه الطموحات وتحقيق بعضها يمكن أن تتوقف عند مجرد إقامة حلف أو اتفاقات مع إيران تضمن للطرفين حماية معقولة ومركزاً متقدماً في سباق الغرب العائد ليجرب حظاً جديداً في عالم متغير.
فرنسا ليست استثناء، فالشرق الإسلامي مفتوح لها وأبوابه تتسع لدخول الجميع. الرئيس هولاند يأمل أن تلعب موجة الحزن الفرنسي على ضحايا ليلة الجمعة السوداء دور سجادة علي بابا السحرية لتحمله إلى دمشق، وربما بغداد بعدها، زعيمة لحلف تقوده بنفسها، حلف لا يكون بقيادة أميركا أو بريطانيا. لا شك يخالجنا نحن العرب في أن الشوق الأكبر والحنين الأعظم هما اللذان يحركان الآن سياسة تركيا الأردوغانية في مناطق جوارها، الأوروبي والعربي والآسيوي على حد سواء.
وما المشكلة الروسية التركية الراهنة إلا نسخة منقحة لمشكلة مماثلة وقعت في زمن غير بعيد، وما الغزو التركي المتكرر للعراق وسوريا سوى عملية تدرّبت عليها جيوش تركيا العثمانية وتركيا الأتاتوركية مراراً وتكراراً. المهم أن تجد تركيا لنفسها حيزاً تحجزه ليوم قريب تجتمع فيه الإرادات الأجنبية فتقع التسوية السياسية التاريخية، أو تصطدم فتنشق الأرض في الشرق الأوسط، وربما آسيا الوسطى، عن أخاديد تصنع واقعاً جديداً.
أبقى في انتظار أن يعقد الوزراء، أو الرؤساء العرب، اجتماعاً يناقش التمهيد للاشتراك في صنع التسوية التاريخية المقبلة كبديل ممكن أن يتفادوا به الوقوع في أخاديد الزلزال.
السفير

Share this Article
Leave a comment

اترك تعليقاً