المرأة والرجل: تاريخ السيطرة

2016/01/24
Updated 2016/01/24 at 10:20 صباحًا

23qpt975

والواقع أن ظاهرة الحرب وحدها كانت كافية لإرغام المرأة على طلب الحماية في جانب الرجل، فقد كانت ظروف القتال أكثر مما يمكن للمرأة أن تحتمل وكان القتال نفسه قد أصبح نظاماً متناسق البناء، تبنّته معظم حيوانات العالم بصورة نهائية، وجعلته قانوناً للحصول على الغذاء والمأوى ثم للدفاع عنهما طوال الوقت، وكانت ظروف الحمل والولادة ورعاية المولود ومدّه بالغذاء، تعترض طريق الأنثى ـ أي أنثى ـ في تحقيق الشروط المعقدة للقتال.
فقد كانت الأنثى تظل عاجزة أثناء شهور الحمل الأخيرة عن القيام بأي نشاط من شأنه أن يمدها بالغذاء، ثم يأتي المولود، وتزداد الظروف سوءاً أمامها، فهي تحتاج إلى أن تطعمه وترعاه وتجد له المأوى ثم توفر له الحماية وقتاً طويلاً جداً، وهي تحتاج إلى أن تقاتل طوال ذلك الوقت، أو تظل مستعدة للقتال، وكان من الواضح أنه لم يكن في وسع أحد أن يقوم بتأدية هذه الواجبات الثقيلة المتناقضة في وقت واحد، ولم يكن ثمة حل أمام الحياة نفسها سوى أن تتخلى عن فكرة التجدد كلية، أو تعيد الارتباط بين الذكر وبين الأنثى، لا من أجل إنجاب الأطفال فقط، بل من أجل رعايتهم أيضاً، ولسبب ما لم تتخلّ الحياة عن التجدد بل خلقت شيئاً آخر في الأنثى جعلها تتقدم طائعة لكي تضع نفسها وأطفالها تحت حماية الذكر. وقد حدث ذلك بين كل الحيوانات البرية، بل حدث بين كل حيوانات العالم ـ ما عدا بعض الأسماك ـ وكان الإنسان إذ ذاك مجرد حيوان آخر مثلها.
وهكذا جاءت أول امرأة إلى كهف أول رجل ووضعت نفسها تحت تصرفه، وهكذا فعلت كل الحيوانات الأخرى، وأصبح القتال من شأن الذكور وحدهم، فيما تفرغت الإناث ـ عبر كثير من السنين ـ لإنجاب الأطفال ورعايتهم والعناية بشؤونهم، ونمت الحياة أكثر.
وحدث ذلك الانفصال الحاسم بين الإنسان وبين بقية الحيوانات الأخرى عندما تمكن أحد الرجال من أن يزرع أول حقل في العالم، وكثرت الحقول ثم كبرت وأصبحت مزارعاً كاملة، وبُنيت البيوت في وسطها، وانتقلت المرأة إلى البيت مع أشياء الرجل الأخرى، وواصلت تأدية مهمتها بعد أن أضيفت إليها مهمة أخرى تتعلق برعاية ذلك البيت نفسه والعناية بشؤون الرجل، وتَقرر مصير العالم بصورة نهائية، ودخلت المرأة سجنها الأبدي مدفوعة بالرغبة في توفير الحماية لأطفالها، ولم يكن ثمة فرصة أمامها للإفلات من ذلك السجن، فقد كانت مرغمة على قبول سلطة الرجل في المزرعة أو العودة إلى الغابة ومواجهة ظروف القتال مرة أخرى. أما أن تنفصل عن الرجل وتنشيء لنفسها مزرعة مثله فإن ظروف الزراعة كانت مثل ظروف القتال أكثر صعوبة  من أن تقوم بها الأنثى مع واجبات الحمل والولادة، وذلك يعني أن المرأة قبلت سلطة الرجل لسبب اقتصادي بحت، ولو أتيحت الفرصة للقيام برعاية أطفالها وكسب عيشها في وقت واحد لما قبلت هذه السلطة.
والمرء لا بد أن يشير هنا إلى ما حدث بعد ذلك في أوروبا، فقد قدم عصر الصناعة تلك الفرصة للمرأة وأعطاها الاستقلال الاقتصادي الذي كانت تحتاج إليه، ولم تتردد المرأة قط في إعلان تمردها على سجانها فوراً وبطريقة صارمة بمجرد أن اكتشفت قدرتها على كسب عيشها ورعاية أطفالها دون حاجة اقتصادية إلى الرجل، وأعاد التوازن الاقتصادي ثقة المرأة إليها فيما أرغم الرجل على قبول معاملتها باعتبارها نداً له بعد أن ظلّ يعاملها مثل عبد لا قيمة له سوى إنجاب الأطفال وزيادة متاعب الأسرة مئات القرون.
ولم يعد الرجل قادراً على الحصول على طاعة المرأة مقابل مدّها بالغذاء والمأوى، بل أصبح يحتاج إلى إقناعها عقلياً ثم اعتبارها شريكاً في كل شيء، والعمل معها جنباً إلى جنب دون أي رغبة في الاحتفاظ بميزات خاصة، وهذا حدث في بلدان المسلمين والمسيحيين على السواء مما يدل بوضوح على أن سجن المرأة لم يتم لسبب ديني بل لسبب اقتصادي بحت. أما نتيجة هذا التغيير، وهل حدث في صالح الحضارة أو ضدها، وهل نفع ذلك المرأة أم زاد مهمتها تعقيداً، وماذا كان أثر ذلك على الرجل وأطفاله معاً؟ فإن تلك أسئلة لا يمكن نقاشها الآن لسببين مهمين:
أولهما: أن تحرير المرأة  قد لازمته تغييرات جذرية أخرى في مجرى الحضارة نفسها، وظلت الصناعة ـ التي أخرجت المرأة من وراء الجدران ـ تبني جداراً من نوع آخر حول الإنسان ذاته وبصورة أكثر ثباتاً.
وثانيهما: أن المرأة ارتكبت من الأخطاء عبر طريقها الجديد ما جعل موقفها شديد الحرج أمام الأجيال القادمة، ووصم هذا العصر بوصمة من الصعب تجاهلها كلية فيما يخص تاريخ المرأة .
وإذا كان ثمة نظريات تعتبر السبب الاقتصادي وحده هو الطريق إلى تفسير الظاهرة بأكملها، فأنا لا أريد قول ذلك هنا، لأنني ـ في الواقع ـ أبذل جهداً خاصاً لمواجهة الأمر بالطريقة التي حدث طبقاً لها، وإذا كانت الحاجة الاقتصادية بداية لقبول سيطرة الرجل، فمما لا شك فيه أن ملايين أخرى من النساء قد قبلن هذه السيطرة باعتبارها فريضة دينية مقدسة وباعتبارها إحدى وصايا الرب نفسه.
وقد وهب هذا الاعتقاد السلام للمرأة، وأعطاها التعويض النفسي الذي كانت تحتاجه لكي تواصل الحياة داخل السجون الممتدة بلا انقطاع بين الكهوف المظلمة في بدايات العصر الحجري وبين البيوت المظلمة الأخرى في العصر الذي ما زال حجرياً، وكان ذلك التعويض شيئاً مهماً جداً في حياتها. وليس ثمة بد من أن يتذكر المرء قبل أن يقع في فخ النظريات المادية وحدها ويرتكب خطأ فظيعاً لا يمكن تفسيره، فمن الواضح أن المرأة المسلمة ـ على الأقل ـ قد أُقنعت إقناعاً كافياً بأن تعتبر سجنها أمراً من الله نفسه، وأن تتقبل ذلك السجن باعتباره إرادة سماوية لا فكاك منها جاءت للمحافظة على طهارتها وعفتها إلى النهاية.
من «الحديث عن المرأة والديانات»، 2002

ميزان النقد والتناقض

كان طبيعياً أن يلتفت الكاتب والمفكر الليبي (1937 ـ 1994) إلى قضايا المرأة، ضمن مشروعه العريض لإعادة قراءة المجتمعات العربية، في مشاهدها السوسيولوجية والأنثروبولوجية والأسطورية؛ وأن تكون له مقارباته النقدية في تاريخ علاقتها بذاتها أولاً، ثمّ بالرجل تالياً. وفي كتابه «الحديث عن المرأة والديانات» أوضح أنه لا يسعى إلى «جرح مشاعر أي من رجال الدين الفضلاء»، ولكنه مع ذلك سيحاول البحث في التالي: كيف نظرت الديانات السماوية إلى المرأة، وكيف عاملتها عبر ثلاثة آلاف عام، وماذا قال الأنبياء عنها. من هنا فإنّ احتساب محاسن هذه المقاربة، مثل مساوئها، أمر ذو صلة بميزان مشروع النيهوم بأسره، وضمن موازينه. وكان النيهوم قد ابتدأ من كتابة قصص الأطفال، ثمّ الرواية (الأولى كانت بعنوان «من مكة إلى هنا»، 1970)، قبل أن يستقرّ نهائياً على دراسة علاقة الأديان بالمجتمعات، فيتابع هذه الموضوعات في جامعات ميونيخ وأريزونا وهلسنكي، وينشر حصيلة أفكاره في مقالات متفرقة نُشرت في دوريات عربية، ثمّ جُمعت بعدئذ في كتب؛ بينها: «فرسان بلا معركة»، «محنة ثقافة مزورة»، «الإسلام في الأسر»، «إسلام ضد الإسلام»، و«الرمز في القرآن». ومن الجدير بالتنويه، هنا، أنّ مواقف النيهوم النقدية إزاء تشدد الخطاب الديني الفقهي، في مسائل الدنيا تحديداً، كانت تستبق النقد الذي سيوجهه مفكرون لاحقون معاصرون، رأوا في ذلك الخطاب عتبة لصعود الإسلام السياسي الجهادي والتكفيري.
ذلك لم يجنّب النيهوم الوقوع في سلسلة تنافضات، منهجية وفكرية، كما حين اعتبر أنّ «الكلام عن الديمقراطية في مجتمع دون عمال ومن دون رأسمال مجرد كلام غير ضروري بين ناس غير ضروريين، لا أحد يريد أن يسترضيهم ولا أحد يهمه أمرهم وليس لهم صوت وليس لصوتهم ثمن»! كذلك لا يخفى ذلك الانتقاد المشروع حول صداقة النيهوم مع نظام معمر القذافي، إذْ لم يرفع صوتاً للدفاع عن الحريات العامة وإطلاق سراح معتقلي الرأي. فكيف يستقيم هذا الصمت مع مشروع فكري تغنى بالانعتاق من قيود الماضي، تساءل أصدقاؤه قبل خصومه.

الصادق النيهوم- القدس العربي

 

 

Share this Article
Leave a comment

اترك تعليقاً