هل تنتج الهبة الشعبية أدبًا يخصها؟

2016/05/02
Updated 2016/05/02 at 9:23 صباحًا

الأدب المقاوم

رام الله –  وفا- يامن نوباني-لكل مرحلة من مراحل الثورة الفلسطينية أدبها الخاص، ونتاجها من الشعر والرواية والنثر والقصة القصيرة والسيرة الذاتية والمسرح، سواء كُتبت في المنافي أو داخل حدود الوطن.

منذ ثمانية أشهر اشتعلت هبة شعبية، مختلفة تماما عما سبقها من هبات أو انتفاضات، وخاصة في كيفية انطلاقها، حيث كانت السكين عنوانها، وأبرزت أماكن جغرافية جديدة لم تكن من قبل بهذه السخونة الثورية، كما أن من أشعل فتيلها هم شبان صغار في العمر، ولوحظ فيها ارتفاع وتيرة مشاركة الفتاة والمرأة الفلسطينية، فيما اختلفت الفصائل والوسائل الإعلامية حول تسميتها، فالبعض رآها هبة أو مجموعة هبّات، والبعض رآها انتفاضة.

“وفا” حاورت عددا من الروائيين والكُتاب الفلسطينيين، بعيدا عن تسميات ما شهدته وتشهده فلسطين، وطرحت عليهم الأسئلة التالية: هل تعتبر الهبة الشعبية التي انطلقت في بدايات تشرين الأول من العام الماضي أرضًا لإنتاج أدبي، كيف شكله؟ وهل أثرت مواقع التواصل الاجتماعي في ذلك النوع من الأدب، كأن تكون أعطته شكلًا وجوهرًا معينا، أم أنها عبرت عن الأحداث بسطحية؟ وهل بإمكان الهبة أن تُنتج أدبًا عميقًا، يكرّس مرحلة من مراحل الوضع الفلسطيني، أم أنها لم تصل إلى ذلك الحد، وستنتهي بكتابات متفرقة تبرز بشكل أكبر في أدب الشباب..

كيف رأت بعض الأصوات البارزة في الحياة الثقافية الفلسطينية، إمكانية أن تفرز الهبة الشعبية أدبًا يخصها:

الكاتب جميل السلحوت:

الكتابة الأدبيّة عن مرحلة ما لا تأخذ طابعها الجدّي إلا بعد انتهاء تلك المرحلة، وأجمل الآداب التي كتبت عن الحرب العالمية الثانية -على سبيل المثال- هي ما كتبت بعد انتهاء تلك الحرب. والهبّة الشعبية الفلسطينية الحالية ليست استثناء بالطبع، وهناك كتابات أدبية سريعة شاهدناها كردود فعل سريعة على حدث بعينه، كبعض القصائد الشعريّة في رثاء شهيد بعينه، أو كردّة فعل على ممارسات الاحتلال الهمجية، وقد شاهدنا بعض “الومضات” الأدبية العاطفية السريعة على صفحات “الفيس بوك”، وكان لوالد الشهيد بهاء عليان دور الرّيادة في هذا المجال. كما قرأنا عددا من الأقاصيص بهذا الخصوص. أمّا القصص القصيرة والرّواية فإنّني أعتقد أن دورها لم يحن بعد، لأن المرحلة لم تكتمل بعد، ويحضرني هنا ما قاله الراحل محمود درويش عندما سئل عمّا يكتبه أثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان في العام 1982 فأجاب: “عندما تسكت المدافع يتكلّم الشّاعر”.

الروائي أسامة العيسة:

بشكل عام تشكل الأحداث التي ينظر إليها البشر، بأنها ذات قواسم تتعلق بالحرب، والأمل، والحب، والمواجهة، والموت، غيرها، أرضا للإنتاج الأدبي والفني، وفيما يخص فلسطين، فإن الأدب تعرض لمنعطف قد يكون الأخطر في مسيرته منذ قرن، بعد عام 1993، وظهر ما بدا أن ما كتب عن مسيرة شعبنا، وثورته، ومقاومته، لم يصمد، وقد يتوارى.

بالنسبة لي المهم كيف يمكن للأديب أن ينظر للأحدث، من أية زوايا مشهدية، وفنية، وبهذا المعنى فإن كل حدث يصلح لأن يكون عملا فنيا. الأدب يختلف كليا، عما تنتجه مواقع التواصل الاجتماعي، المحكومة لنشر اللحظي، وردود الفعل اللحظية، الأدب يحتاج عادة إلى وقت، وبما أنه صناعة ثقيلة، فإن الأمر يحتاج إلى النزول للميدان، ومحاورة الفاعلين، ومراقبتهم، وملاحظتهم لفترات طويلة، ومحاولة فهمهم، بالنسبة لي شخصيا، نزلت إلى مواقع المواجهات، لكي أفهم ما يحصل، ونظرت بمقت لدعوة وصلتني للمشاركة في ندوة عن واقع هذه الهبة وآفاق تطورها، سيتحدث بها مجموعة من المثقفين، وتساءلت لماذا يتحدث أصحاب الشأن والعلاقة حول الموضوع؟ لقد تعلمت شخصيا الكثير من الفتية في الميدان، وحاولت التعبير عن ذلك بقصص صحافية، نشرتها في الصحف المحلية، وعلى موقعي على الفيس بوك. ولكن الكتابة السردية تحتاج الى وقت، فبالنسبة لي لدي خطة للكتابة عن انتفاضة النفق عام 1996 التي غطيتها ميدانيا، ولدي أرشيف مهم عنها، ولكن لم أكتب شيئا حتى الآن.

أما الشعر فربما يكون أسرع استجابة، ورأينا ذلك مثلا في قصيدة محمود درويش عن الطفل محمد الدرة. الهبة، وغيرها من هبات وأحداث، تشكل منفردة ومجتمعة، مادة ثرية لكتابة أدب إنساني عميق، فأن تعيش ليلة واحدة فقط في ظل احتلال، كافية لكتابة عمل أدبي مهم، ولكن كيف ينظر الكتاب إلى مثل هذه الهبات، وأين هم منها، وهل يستطيعون من مقاهيهم، وشللهم، أن يروا أبعد من أنوفهم؟ علينا أن نتخلص مما أسميه عقدة أوسلو الأدبية، التي جعلت أي شيء يتعلق بالأدب الذي له علاقة بالمقاومة، أدبا سيء السمعة. وعلينا أن ننظر بجدية أكبر لعملية تشكيل الأعمال الأدبية. لم يعد مقبولا أن يكون الأدب فقط مجرد شذرات سيرية، ومقاطع إنشائية تتغنى بالبطولة والشهادة مثلا، الأدب هو أكثر من رصد لعلاقات وتشابكات في الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والتاريخي.

الروائي أكرم مسلم:

في العموم كل تجربة جماعية هي مادة لإنتاج أدبي، وكذلك كل تجربة شخصية، لكن لا توجد إجابات حاسمة على مثل هذا النوع من الأسئلة، الإجابة مستويات، ربما تؤثر حركة على نحو سريع، وأخرى تضرب عميقا فتتحول إلى ما يسمى “حدثا مؤسسا”، ربما حدث سريع كهبة النفق يحفر دلالة جماعية أكثر من حرب طويلة، وأحيانا يبدو الأمر مثل ضربة النرد، ربما يتاح لشاعر أو سارد من أولئك “القرنيّين” فيرفع الحدث إلى منصته الوجودية الأعلى، وربما يكون الحدث عظيما ولا يعبّر عنه أدبيا بما يليق (دائما أفكّر في أن أكثر من 600 ألف فلسطيني دخلوا السجون، ولم ننتج رواية سجن تكسر “البيضة” وتفرض نفسها إنسانيا، مع الاحترام لأهمية ما أنجز كتوثيق وتأريخ ومساهمة وطنية).

الهبة الحالية ما زالت تتفاعل، وهي محمولة على أكتاف جيل يدفع ثمنها من دمه، وطبيعي أن تكون قصيدته ساخنة الآن، يحتاج الأمر لوقت لنعرف أشياء كثيرة، ويحتاج مبدعو الجيل لمسافة حتى يعيدوا صياغة الأحداث، ربما. سياسيا واجتماعيا، لا تبدو لي الهبة حاليا حدثا مؤسسا ومؤثرا بالمعنى الهوياتي، وحتى أنها كخطاب لم تنتج خطابا متجاوِزا يؤسس لتغيير ثوري، أو “لا ثوري”، بل تبدو أكثر تلبية لاحتياج المقاومة واستمرارا لها في وجه جور الاحتلال وقهر الاستيطان، وتعبر عن فطرة وطنية سليمة. قلت “لا تبدو لي”، وكثيرا ما بدت لنا الأمور كغير ما هي عليه، من مواقعنا العمرية والوظيفية والاجتماعية والجغرافية، فكثيرا ما تفاجأ “المكرّسون” بأشياء تحدث تحت مخداتهم.

الكاتبة نسب أديب حسين:

عند مراجعة الأدب الفلسطيني في القرن العشرين، يمكننا ملاحظة تغييرات مرحلية فيه على أثر أحداث أو مواجهات كبرى، فالنص والرسالة الأدبية شهدت تغييرات بعد النكبة عام 1948، وبعد حرب 1967، وهناك أدب ما بعد أوسلو. وهذه المراحل هي مراحل سياسية فارقة ومهمة على مستوى الوطن، جاءت بعدها تغييرات واسعة على عدة مستويات. يجب أن يكون التغيير السياسي والتغيير على أرض الواقع كبيرًا لنشهد مرحلة جديدة من الخطاب الأدبي، وأعتقد أن الهبة الحالية لم تفرض تغييرات كبيرة بحيث تؤدي إلى نشوء مرحلة أو خطاب أدبي مختلف عن السياق السابق. كذلك فإن الهبة الحالية لم تنته ولم يتحدد مسارها، وما تزال بعض ملامحها ضبابية، وتطرح أسئلة يصعب الإجابة عنها، ونحتاج لفترة بعد انتهائها لمراجعة ودراسة ما كُتب ليتم الحكم هل أنتجت الهبة أدبًا عميقًا أم لا.

مواقع التواصل الاجتماعي تساهم بوجود ومضات سريعة من تداولات، أو أخبار معينة قد تحصد زخمًا مرتفعًا، لكنه يخبو بسرعة، ويبدأ المتصفح بالبحث عن حدث جديد سريع بأقل الكلمات، ولم أشهد تداول لقصيدة أو قصة أو قطعة أدبية من أي شكل، حازت على اهتمام الجمهور بشكل لافت. وتأثير مواقع التواصل قد نشهده في المدة الأخيرة، وليست تحديدا عند الهبة بل أيضًا قبلها، بأنه يساهم بإيصال الخبر الى الكاتب بسرعة شديدة، ويدفعه في أحيان كثيرة للكتابة بأقل ما يمكن من الكلمات لتتماشى مع روح العصر المتسارع. الأدب لا بدّ وأن يقدم عددًا من الانتاجات المختلفة، التي تنقل وتعبر عمّا حصل في الهبة. لكن هل سنجدنا أمام مرحلة أدبية جديدة إثر الهبة الحالية، أعتقد أنه إن استمرت بالوتيرة التي شهدناها في الأشهر الأخيرة، ودون تغييرات حقيقية ملموسة فلن نرى مرحلة جديدة، بملامح جديدة في الأدب.

هذا ما رآه المثقفون فيما يتعلق بإنتاج أدب يخص الهبة الشعبية، والتي بلا أدنى شك شكّلت فضاءً رحبًا للكتاب الشباب، خاصة في مجال “الاقتباس الثوري”، وبدرجة أقل القصة والنثر والشعر، والتي جاء معظمها كردة فعل سريعة وساخنة على حدث يخصهم شخصيًا، أو يلبي غريزتهم في التعبير عما عايشوه، خاصة أن وسائل التواصل الاجتماعي وسرعة نشر ووصول ما يكتبونه، ساهم في تشكيل صبغة للمرحلة كان أبرزها الاشتراك الواسع في تجربة الكتابة عن الهم والحس الجماعي، حتى لو بدت معظم المحاولات بسيطة ولم تبرز أسماءً براقة، فيما اتفق مثقفون وأدباء أن الهبة والمرحلة لم تنضج بعد لتشكل أدبًا ورواية مكتملة تقدم نفسها كشكل جديد من أشكال الرواية والأدب الفلسطيني، لكن ذلك لا يعني أنها بعيدة عن انتاج أدبها الخاص مهما كان شكله، خاصة أنها ما زالت متفاعلة، وأن الأدب العميق ينتج في معظمه بعد انتهاء مرحلة ما.

ــ

ي.ن/ خ.خ

 

Share this Article
Leave a comment

اترك تعليقاً