هكذا يفتك سرطان النفط بأبناء سوريا

2016/05/11
Updated 2016/05/11 at 8:45 صباحًا

d07b2552-f700-4cec-971d-b21a348f45ce

 

بين الذبح والرصاص والقذائف والغرق، يتصاعد بسرعة الموت بورم قاتل ليفتك بمزيد من السوريين، سواء لضيق الإمكانيات أو لعوامل بيئية، أهمها أبخرة النفط الآتية من محطات بدائية برعاية تنظيم «داعش».
على بوابة مستشفى الهلال الأحمر وسط دمشق تنهار «أم عبود» القادمة مع زوجها المريض من دير الزور، حين تكتشف أن القسم الخاص بالأورام قد انتقل إلى مستشفى آخر، حيث يحتشد المئات يومياً، بين مراجعين لتلقي الجرعات أو بحالات إسعافية ليست سوى المراحل النهائية من الورم، حيث لم يعد ينفع أي علاج.
وتقول السيدة السبعينية: «بقيت على الطريق 18 ساعة كي أصل للحصول على جرعات للمرض، وعلي الانتظار من جديد ليصل دوري ويقابلني أحد الأطباء».
سنكتشف لاحقاً أن خمسة أطباء فقط، بين اختصاصيين ومقيمين، عليهم مقابلة أكثر من 200 مريض يومياً ضمن ساعات العمل الرسمي، ما يعني ضغطاً هائلاً، تزايد بعد تصاعد العمليات العسكرية على طريق دمشق ـ حمص، حيث يقع مستشفى «البيروني» الجامعي الذي كان مخصصاً لعلاج مرضى الأورام بمختلف درجات الإصابة وبمختلف الوسائل الدوائية وغيرها، ما فرض انتقال جزء كبير من المراجعين إلى أماكن أكثر أمناً في قلب العاصمة.
ويقول عبد الرحيم، وهو مريض بسرطان المعدة: «أضطر للقدوم شهرياً من حمص لمتابعة العلاج. أعرف أن علي الانتظار طويلاً، ولكن سعر الدواء غال، ولن أستطيع تدبره بمفردي».
والسعر الذي يتحدث عنه الرجل الأربعيني لم يعد رقماً سهلاً، إذ تصل تكاليف العلاج في بعض المراكز الخاصة الى مئة ألف ليرة سورية (200 دولار) للجرعة الدوائية الواحدة، وطبعاً تقفز الأرقام تدريجياً مع تقدم درجات الورم أو ارتفاع سعر صرف الدولار، ما يجعل الكثير من المرضى يفضلون الانتظار في ظروف صعبة على تحمل مثل هذه التكاليف.
ويكشف أحد الأطباء في دمشق أن الثقل الأساسي هو على مستشفى ابن النفيس حيث مركز علاج الأورام، فيما نجحت وزارة التعليم العالي في افتتاح مركز بديل من مستشفى البيروني وسط العاصمة هذه المرة، في محاولة لتخفيف الضغط، لكن الإشكالية تكمن في نقص عدد الأطباء المختصين أو المقيمين، مع استمرار هجرة الأطباء، بشكل باتت فيه هذه الهجرة تؤثر سلباً على عمل المستشفيات عموما وأقسام الأورام خصوصا.
نفط «داعش» يقدم
الموت المجاني في الشرق
يمكن تمييز لهجة أبناء المنطقة سريعاً في أروقة مستشفيات دمشق. ليس الأمر من قبيل المصادفة، فأعداد الوافدين كبيرة للغاية، خاصة المصابين بالسرطان. ستتعدد الروايات حول قصة واحدة: حراقات النفط والأبخرة المؤذية. لا أرقام أو إحصائيات رسمية صادرة عن وزارة الصحة حيال الأمر، مع إشارة إلى أن سنة 2010 سجلت قرابة 950 حالة إصابة بالسرطان في كل من دير الزور والرقة من أصل 10 آلاف مريض استقبلتهم المستشفيات في تلك الفترة.
لكن شهادات المرضى وحدها كافية للتركيز على ما يجري. هكذا يقول وسام، الشاب الثلاثيني الذي ذاق الأمرين، بسبب الأنابيب التي تفجرت وباتت مراكز للتكرير، «بحثنا في البداية عما يدفئنا، ولكن الرائحة والأبخرة سببت ضيقاً في التنفس ومشاكل جعلت عائلتي، والكثير من الناس، يراجعون المراكز الصحية في البوكمال على قلتها، لكن ثلاثة من إخوتي ظهرت عليهم علامات نقص الوزن واستمرار ضيق التنفس، وحين قصدنا دمشق بعد محاولات شاقة اكتشفنا الورم».
وإن كانت عشرات الصحف والمنظمات البيئية قد دقت قبل سنوات جرس الإنذار حيال خطر مواقع تكرير النفط البدائية، إلا أن النتيجة باتت ماثلة للعيان ولعلها البداية بحسب ما يقول طبيب للأورام لـ «السفير». ويوضح «تتأخر الأعراض في الظهور لسنوات عدة، وبالتالي لا يمكن اعتبار المواد الناجمة عن تكرير النفط هناك عاملاً رئيسياً للورم بقدر ما هي عامل مسرع، نتيجة سلسلة عوامل أخرى، تبدأ من قرب المنطقة من العراق حيث المواد الكيميائية الناتجة من القصف والحرب الطويلة».
على أن الكارثة تقترب أكثر فأكثر بحسب رأيه، فالعديد من مناطق ريف دير الزور والرقة مضى عليها بالفعل فترة زمنية كافية لانتشار الورم، وبدء ظهور أعراض تستدعي انتباه المريض وعائلته، وبالتالي اكتشاف الإصابة، ما يعني أن السنوات المقبلة لن تكون فأل خير على أبناء الفرات.
وتعود حكاية النفط إلى الأشهر الأولى من الحرب السورية، حين فجرت مجموعات مسلحة أنابيب النفط، قبل أن تتناوب فصائل «الجيش الحر» ثم «أحرار الشام» و «جبهة النصرة» على السيطرة على مصدر دخل ذهبي، دفع كثيرا من الناس إلى العمل في مجال تكرير الذهب الأسود، عبر تصنيع حراقات بسيطة تنتج أبخرة بفعل احتراق النفط وإنتاج مشتقاته، وإن كانت الأبخرة ذات أعراض على الجهاز التنفسي في البداية، فإن تأثيرها الأساسي يكمن في دخول مواد مسرطنة تطلق العنان للخلايا في النسيج الرئوي بالمقام الأول للتكاثر والانتشار سريعاً جداً، ما يعني بدء حدوث الورم. أما انعكاسها على الأطفال فيتركز على جملة من التشوهات الولادية القائمة على غياب أعضاء أساسية، بطريقة تجعل الجنين غير متوافق مع الحياة، والمقصود هنا هو غاز الكبريت القادر على إحداث تشوهات في الأجنة بنسب عالية للغاية.
وتعتبر الأبخرة المتصاعدة من عمليات التكرير اليدوي قابلة للامتصاص من المساحات الزراعية، قبل أن تؤثر على احتمالية تساقط الأمطار الحمضية في السنوات القليلة المقبلة، ما يعني زيادة في التخريب البيئي، وانعكاس ذلك على المياه، والدخول بالتالي في حلقة مفرغة.

أرقام مهولة عن الأورام
تشير الأرقام الصادرة عن وزارة الصحة إلى أن نسبة الإصابة بأمراض السرطان في سوريا قبل الحرب كانت بين 63 إلى 75 حالة لكل 100 ألف شخص. وتعتبر أورام الرئة واللوكيميا الأكثر انتشاراً.
ويلفت التقرير الوطني الأول للسرطان إلى أن 80 في المئة من الحالات يتم اكتشافها في وقت متأخر للغاية، ما يعرقل احتمالات الشفاء كثيراً، فيما تشير توقعات مستشفى «البيروني» الجامعي إلى زيادة مطّردة في نسب الإصابة بين 15 الى 20 في المئة، بينما تتوقع منظمة الصحة العالمية أن تكون النسبة 105 حالات لكل 100 ألف مريض.
ويتوجه يومياً ما بين 800 إلى 1200 مريض من مختلف أشكال ودرجات الأورام إلى مستشفى «البيروني»، غالبيتهم في منطقة المزّة، وهو رقم قريب من نسبة القادمين إلى مراكز الأورام في مستشفى ابن النفيس في دمشق، مع الإشارة إلى ارتفاع هذه النسب بعد استهداف مستشفى «الكندي» في حلب، المخصص في جزء منه لحالات السرطان. وزاد الضغط على مستشفى تشرين الجامعي في اللاذقية بحكم تحول المدينة الصغيرة إلى محطة لعشرات آلاف النازحين من حلب وإدلب.
وتصل تكاليف العلاج إلى أرقام تعتبر خيالية، إذ وصلت ميزانية الأدوية إلى ملياري ليرة سورية (مليونا دولار تقريباً) بالنسبة الى مستشفى «البيروني».

السفير

Share this Article
Leave a comment

اترك تعليقاً